في العام 313، أي منذ 1711 عام، أصدر قسطنطين الكبير إمبراطور الغرب وليقينيوس إمبراطور الشرق مرسومًا سمّي بـ”مرسوم ميلانو”، أمرا بمقتضاه بالتسامح الدينيّ، وأقرّا حرّيّة العبادة التامّة لجميع مواطني الإمبراطوريّة بمَن فيهم المسيحيّون. وقد اتّخذ هذا المرسوم مكانة هامّة في التاريخ المسيحيّ، إذ وضع حدًّا لثلاثة قرون من الاضطهادات مارستها الدولة الرومانيّة ضدّ الكنيسة وضدّ المسيحيّين، مفتتحًا عصرًا جديدًا للمسيحيّة. ففي مطلع القرن الرابع، كان المسيحيّون يعيشون في القلق والرعب. فبأمر من الإمبراطور ديوقلطيانس، ثارت عليهم أشدّ الاضطهادات التي عانتها الكنيسة الناشئة. وقد بدأت عام ٣٠٣ وامتدّت حتّى عام ٣٠٥ في الغرب، وحتّى عام ٣١١ في الشرق. ودونكم نصّ المرسوم الذي أنهى عصر الاضطهادات:
“أنا، قسطنطين أوغسطس، وأنا، ليقينيوس أوغسطس، المجتمعين سعيدين في مدينة ميلانو، للبحث في سائر الأمور المختصّة بالأمن والخير العامّ، رأينا من واجبنا، في المقام الأوّل، تنظيم ما يجب تنظيمه لخير الأكثريّة، من أمور تتعلّق باحترام الألوهة، أي إعطاء المسيحيّين وسائر الناس الحرّيّة وإمكانيّة اتّباع الديانة التي يختارون. هكذا يصبح ما هو إلهيّ في السماء حانيًا علينا ولطيفًا نحونا ونحو كلّ مَن هم تحت سلطاننا. لذلك، بنيّة صافية ومستقيمة، رأينا من واجبنا أخذ قرار بألاّ نحرم أحدًا من هذه الإمكانيّة، أتعلّقت نفسه بالدين المسيحيّ أم بأيّ دين آخر يظنّ أنّه يناسبه. هذا لكي تمنّ علينا الآلهة الشريفة، التي نكرّمها عفويًّا، بنعمها وعطفها المعتادين. لذلك، بعد أن ألغينا القيود الواردة في المـراسيم السابقـة بحقّ المسيحيّين، قـرّرنـا إلغـاء البنـود غير المأنوسة والغريبة عن حلمنا ودماثة أخلاقنا، والسماح، من الآن فصاعدًا، للذين يريدون ممارسة الديانة المسيحيّة، أن يفعلوا ذلك بحرّيّة وكما يشاؤون، من دون أن يزعجهم أو يضطهدهم أحد”.
هذا الحلف الذي قام بين الإمبراطورين قسطنطين الكبير وليقينيوس فلم يدم طويلاً، لأنّ كلّ واحد منهما كان يسعى لإعادة توحيد الإمبراطوريّة، في الشرق والغرب، لمصلحته وحده. فتدهورت العلاقات القائمة بين الإمبراطورين، فحاول ليقينيوس، تحدّيًا لخصمه قسطنطين، أن يتراجع عن توقيعه على “مرسوم ميلانو”، فيستأنف سياسة معادية للمسيحيّين. وفي تلك الأحوال لم يصعب على قسطنطين أن يظهر حملته ضدّ ليقينيوس بمظهر محاربة الوثنيّة وحملة دينيّة عليها. وفي سنة ٣٢٤، هزم قسطنطين ليقينيوس، وصار الإمبراطور الأوحد. وما لبث المسيحيّون أن رأوا في السيّد الوحيد على الإمبراطوريّة كلّها، واحدًا منهم.
ولد فلافيوس فاليريوس قسطنطينُس (قسطنطين)، ابن قسطنسيوس الأوّل وزوجته هيلانة، في حوالى السنوات ٢٨٠-٢٨٥، في صربيا الحاليّة. كان أبوه قسطنسيوس إمبراطورًا متسامحًا، وأمّه كانت قد اعتنقت المسيحيّة. بعد انتصاره على ليقينيوس وتوحيده الإمبراطوريّة تحت سلطته، قرّر قسطنطين أن يبقى في الشرق ويؤسّس عاصمة جديدة للإمبراطوريّة. فاختار مدينة صغيرة تدعى بيزنطية كانت على البوسفور، وشيّد فيها مقرّ الحكم فاصبح اسمها القسطنطينيّة. وتمّ الاحتفال بالتأسيس في ١١ أيّار ٣٣٠. لكنّ قسطنطين لم يقتبل المعموديّة إلاّ على فراش الموت عام ٣٣٧، غير أنّ ذلك لم يمنعه أن يكون مسيحيًّا في قلبه منذ سنين عديدة بتأثير من والدته القدّيسة هيلانة. والكنيسة تقيم لهما عيدًا مشتركًا في الحادي والعشرين من شهر أيّار.
قدّم قسطنطين الكبير إلى المسيحيّين فرصتهم السياسيـّة الأولـى، إذ إنّ اهتداءه لم يكـن شأنـًا فرديًّا وخاصًّا، بل كان لـه انعكاسات سياسيّة ودلّ على رغبة في تنصير الدولة. وتشهد على ذلك سياسة الإمبـراطور الدينيـّة. فأن يكـون للمسيحيّين رئيـس دولـة منهم، فذلك ما يسهّل حياتهم بلا شـكّ، ولكنـّه يجـرّهم أيضـًا، فـي أحيـان كــثيــرة، إلـى أنــواع الحــل الــوســط والتواطؤ. وبعد أن كانت المسيحيّة ديانة أقلّيّة متحمّسة، أصبحت شيئًا فشيئًا ديانة الدولة. ولا بدّ من الإشارة إلى الإيجابيّات العديدة التي أدخلتها المسيحيّة على الدولة، وبخاصّة في الشؤون التشريعيّة. فقد صدرت قوانين تحرّم الزنى مع الإماء، ودعت إلى حماية العبيد من خشونة أسيادهم، والسجناء من شراسة حرّاسهم، وحماية الأرامل واليتامى…
بدأت عمليّة تنصير الدولة مع الإمبراطور قسطنطين الكبير واكتملت في عهد الإمبراطور ثيوذوسيوس الكبير (٣٧٩-٣٩٥) الذي أقدم على قطع آخر الروابط التي كانت تجمع بين الدولة الرومانيّة والوثنيّة، فألغى جميع الامتيازات الخاصّة بالمعابد الوثنيّة والكهنة الوثنيّين، وصادر ممتلكاتهم. واعتبارًا من عام ٣٩١ اتّخذت تدابير تشريعيّة تقضي بمنع جميع
المظاهر العامّة التي كانت الديانات الوثنيّة تتميّز بها، وأغلقت المعابد ودُمّرت التماثيل… فازداد عدد المسيحيّين ازديادًا فاق التوقّعات، لكنّ العديد من المهتدين الجدد كانوا مسيحيّين بالاسم فقط، وكان إيمانهم سطحيًّا وطريقة عيشهم قليلة التأثّر بالتعاليم المسيحيّة. وهذا ما دفع، في المقابل، الكثير من المسيحيّين إلى الالتزام الصارم بتعاليم الربّ يسوع، والسلوك بموجبها لبلوغ القداسة.