كرّس القدّيس يوحنّا الإنجيليّ قسمًا كبيرًا من إنجيله للحديث عن الروح القدس في تعاليم الربّ يسوع. ويكاد لا يخلو إصحاح من إنجيل يوحنّا، من الفاتحة إلى الخاتمة، من دون ذكر الروح القدس وارتباطه ارتباطًا وثيقًا برسالة الربّ يسوع في العالم. أمّا ما ينفرد به القدّيس يوحنّا عن سواه من الإنجيليّين الثلاثة الآخرين فهو إعلانه، في الخطاب الوداعي، عن اسم الروح القدس “المعزّي”، أو “المؤيّد”، أو “الشفيع”، أو “المدافع” (“باراكليتوس” في اللغة اليونانيّة، أو “البارقليط” كما وردت في الكتابات العربيّة القديمة).
يؤكّد يوحنّا الإنجيليّ، عبر حديثه عن شهادة القدّيس يوحنّا المعمدان، على حضور الروح القدس الدائم على الربّ يسوع. فالمعمدان يشهد على ذلك بقوله: “أنا لم أكن أعرفه، لكنّ الذي أرسلني لأعمّد بالماء هو قال لي إنّ الذي ترى الروح ينزل ويستقرّ عليه هو الذي يعمّد بالروح القدس. وأنا عاينت وشهدت أنّ هذا هو ابن الله” (يوحنّا ١: ٣٣-٣٤). ويستعيد الإنجيليّ نفسه موضوع الصلة ما بين الروح القدس والمعموديّة، كما في حديث الربّ مع نيقوديموس عن الولادة الثانية: “الحقّ الحقّ أقول لك إنْ لم يولد أحد من الماء والروح فلا يقدر ان يدخل ملكوت الله. إنّ المولود من الجسد إنّما هو جسد، والمولود من الروح إنّما هو روح” (يوحنّا ٣: ٥-٦).
نجد التعليم ذاته في حديث الربّ مع المرأة السامريّة حيث وعدها بمنحها “الماء الحيّ”، أي الروح القدس: “فكلّ مَن يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا، وأمّا مَن يشرب من الماء الذي أنا أعطيه له فلن يعطش إلى الأبد، بل الماء الذي أعطيه له يكون فيه ينبوع ماء ينبع إلى الحياة الأبديّة” (يوحنّا ٤: ١٣-١٤). لذلك تأتي العبادة “بالروح والحقّ” نتيجةً لحلول الروح القدس الذي يكشف للمؤمنين الإيمان الحقّ: “لأنّ الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحقّ ينبغي أن يسجدوا” (٤: ٢٤).
ثمّ يقدّم يسوع نفسه على أنّه الهيكل الذي منه تجري أنهار ماء حيّ: “مَن آمن بي فكما قال الكتاب ستجري من جوفه أنهار ماء حيّ. وإنّما قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه” (٧: ٣٨-٣٩)…
يعرض يوحنّا الإنجيليّ لموضوع الروح القدس “البارقليط” في الخطاب الوداعيّ معدّدًا مهامّه ورسالته. فالروح القدس يعلّم المؤمنين ويذكّرهم بتعاليم الربّ: “وأمّا المعزّي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلّمكم كلّ شيء ويذكّركم بكلّ ما قلته لكم” (١٤: ٢٦)، وهو الذي يهدي المؤمنين إلى الحقّ: “فهو يرشدكم غلى جميع الحقّ لأنّه لا يتكلّم من عنده بل يتكلّم بكلّ ما يسمع ويخبركم بما يأتي” (١٦: ١٣)، وهو الذي يشهد للربّ يسوع: “ومتى جاء المعزّي الذي أرسله إليكم من عند الآب روح الحقّ الذي من الآب ينبثق فهو يشهد لي” (١٥، ٢٦). لذلك قال يسوع لتلاميذه إنّه لن يدعهم يتامى بل سيرسل إليهم الروح القدس ليكون لهم سندًا وعاضدًا…
ثمّة دور أساسيّ يؤدّيه الروح القدس في أزمنة الاضطهاد، وهو مساعدة المؤمنين على الثبات والتمسّك بالإيمان الحقّ. فالربّ يسوع يؤكّد على مساندة الروح للمضطَهدين من أجل الإيمان، فيقول: “فإذا ساقوكم وأسلموكم فلا تهتمّوا من قبل بماذا تتكلّمون، بل مهما أُعطيتم في تلك الساعة فبذلك تكلّموا لأنّكم لستم أنتم المتكلّمين لكن الروح القدس” (مرقس ١٣: ١١). وهذا ما نجده في إنجيل يوحنّا، فبعدما أنبأ الربّ يسوع تلاميذه بأنّهم سيُضطهدونهم كما اضُطهد هو: “إن كان العالم يبغضكم فاذكروا أنّه قد أبغضني قبلكم… إنْ كانوا اضطهدوني فسيضطهدونكم…” (١٥: ١٨ و٢٠)، يعدهم بروح الحقّ الذي يتيح للمؤمنين به أن يشهدوا بدورهم للحقّ.
يشدّد القدّيس يوحنّا الإنجيليّ على التكامل والتواصل ما بين عمل الربّ يسوع وعمل الروح القدس. فليس هناك زمنان منفصلان، زمن للمسيح وزمن للروح القدس، بل هناك عمل مستمرّ ودائم في كلّ زمان ومكان تظهر فيه نعمة الآب والابن والروح القدس. فالروح القدس “الذي من الآب ينبثق”، يرسله الآب باسم الاين، فالابن يشارك في إرساله إلى العالم: “إنّ في انطلاقي خيرًا لكم لأنّي إنْ لم أنطلق لم يأتكم المعزّي ولكن إذا مضيتُ أرسلته إليكم” (١٦: ٧). والتبليغ الذي يقوم به الروح القدس يأخذه من الابن الذي يأخذ من الآب كلّ ما له: “لأنّ الكلام الذي أعطيتَه لي قد أعطيتُه لهم وهم قبلوا وعلموا حقًّا أنّي منك خرجت وآمنوا أنّك أنت أرسلتني” (١٧: ٨).
عطيّة الروح القدس ترتبط بتمجيد يسوع على الصليب: “لم يكن الروح قد أُعطي بعد لأنّ يسوع لم يكن بعد قد مُجّد” (يوحنّا ٧: ٣٩). والإنجيليّ يوحنّا يجعل العنصرة تتمّ على الصليب حين كتب عن الربّ يسوع على الصليب: “وأسلم الروح” (١٩: ٣٠)، وفي بعض الترجمات العربيّة القديمة “وجاد بروحه”. ثمّ يكتمل الرابط ما بين الروح القدس ومهمّته التقديسيّة في العالم عبر الكلام على “الدم والماء” اللذين سالا من جنب الربّ المصلوب، والدم والماء هما يرمزان إلى سرّي المعموديّة والقدّاس اللذين يجعلان المؤمنين في شركة دائمة مع الآب والابن والروح القدس إلى حياة أبديّة لا تفنى.