إجتماع كهنة أبرشيّة طرابلس
26 أيّار 2012
• مقدّمة
طلب منّي سيّدنا أفرام أن أكلّمكم عن الحياة الرّوحيّة في الرّعيّة، ولكنّني ارتبكتُ إذ لا أملك خبرةً في حياة الرّعيّة، ولا معرفةَ لديّ بظروف الحياة الكنسيّة في لبنان.
سأكتفي بذكر بعض أوجه كرامة الكهنوت، كما عرضَها لنا في تعليمه الأرشمندريت إميليانوس. ولَئِنْ تكلّمَ على الكهنة الرّهبان، إلاّ أنّ هذه المبادئ تتوجّه أيضًا إلى الكهنة العلمانيّين. وكما في سائر ميادين الحياة الرّوحيّة، الفرق بين الرّهبان والعلمانيّين ليس في الطّبيعة، بل في الدّرجة.
في كثيرٍ من الأحيان، يتذمّر الكهنة الّذين يأتون إلى الدّير من غَرَقِهم في المهامّ الإداريّة والمادّيّة لرعيّتهم، ومن التّنازع بين حياتهم الأُسَرِيّة وخدمتهم الكهنوتيّة، كما يَشْكون غَرَقَهم في إقامة الأسرار المعتادة، الّتي توشك أن تصبح روتينيّة… هذه وغيرها من مشاكل كثيرة تُظهر صعوبة تحديد دعوة كاهن الرّعيّة بالضّبط.
مهما تكن المسيرة الشّخصيّة الّتي صارت بنا إلى الكهنوت، وحتّى لو لم يأتِ هذا القرار من إعلان إلهيّ، أي من “دعوة”، علينا أن ندرك جيّدًا أنّ كلّ كاهن هو مدعوٌّ من الله ومفروز للخدمة. خدمتُه ليست مجرّد مهنة كغيرها، وليست خدمةً إجتماعيّة، بل أصبح هو “علامة” لحضور الله. وقبل أن يكون راعيًا منتبهًا إلى احتياجات مؤمنيه، ومستعدًّا لتقديم المساعدة لهم في اللّحظات الحاسمة من حياتهم، عليه أن يكون أوَّلاً “أيقونةً حيّةً لله”.
في الكنيسة الأولى، سيمَ الكهنة أوّلاً ليخدموا الأسقف كمساعدين. وعندما أخذت أماكن العبادة تتضاعف، كُلّفوا الاحتفال بالقدّاس الإلهيّ باسمه. ولكن بقي في وجدان الكنيسة أنَّه يُقامَ قدّاسٌ واحدٌ فقط في مكان معيّن، وأنّ هذا القدّاس هو تَجَلٍّ للقدّاس الّذي يحتفل به يسوع المسيح، كاهننا الأعظم، أمام المذبح السّماويّ.
ولو صَدَمْتُ بَعضًا منكم، يجب أن أؤكّد ثانيةً أنّ دعوة الكهنة، مِثْلَ دعوة الأساقفة، هي، قبل كلّ شيء، أن يكونوا أدواتٍ للإعلان الإلهيّ، لظهورٍ إلهيٍّ متواصلٍ يتّخذ شكلاً واقعيًّا في كلّ قدّاسٍ نحتفل به، في شَرِكَة مع المؤمنين الحاضرين، ومع الملائكة والقدّيسين.
• القدّاس الإلهيّ كظهورٍ إلهيّ
كلّ قدّاس هو إذًا إعلان إلهيّ يصبح الكاهن حامله.
القدّاس الإلهيّ الّذي نحتفل به كلّ يوم أحد ليس مجرَّدَ تذكارٍ للعشاء السّرّيّ، لحدثٍ سابق، مهما يكُن مُهمًّا، بل هو، كما يرد في الإصحاحات الأخيرة من رؤيا يوحنّا، نُزولُ أورشليم السّماويّة على الأرض. يُصبح ملكوت السّماوات حاضرًا، ونتمكّن من الاشتراك به بفضل خدمة الكهنة، أكان ذلك عن طريق الإفخارستيّة المقدّسة، أو من خلال جميع الأوجه الأخرى للعبادة الإلهيّة.
القدّاس الإلهيّ هو، في الوقت نفسه، نزولٌ للسّماء إلينا، وموكبٌ يرفع الكنيسة الأرضيّة باتّجاه السّماء. هو لقاءٌ بين الله والنّاس المُتَّحدين بالمحبّة في جسدٍ واحدٍ، ولكنّه منظَّمٌ بطريقة هرميّة. الكهنة هم حلقاتٌ أساسيّة لنقل هذه الحياة الإلهيّة.
الله “قدّوسٌ”، أي فائق السُّموّ و”منفصلٌ عن كلّ شيء”، كما يدلّ المعنى الأصليّ للكلمة. “الّذي لا تحدّه العقول، غير المنظور، غير المدرَك، غير الموسوع في مكان، الدّائم وجوده، والثّابت الوجود”، هذا ما نقوله في بداية الكلام الجوهريّ. و”لمحبّته الفائقة للبشر، الّتي لا تقاس ولا تقدَّر، صار إنسانًا بلا استحالةٍ ولا تَغيُّر”. صار “منظورًا”، إنسانًا بين البشر، وبقي إلهًا فائق الوصف، حتّى يكون “كاهننا الأعظم”. وأوكل إلينا مهمّة الاحتفال بهذه التّقدمة الفريدة غير الدّمويّة، الّتي تؤمّن لنا الخلاص والقُربى إلى الله، أي أنّه أوكل إلينا إتمامها واستحضارها.
القدّاس الإلهيّ هو دخولٌ في هذا الحَيِّز من قداسة الله المتعذّر بلوغها، والكاهن مدعوٌّ أن يصبح مضيف هذا السّرّ. كتبَ القدّيس يوحنّا كرونشتادت في هذا الشّأن:
“أيّ كائنٍ أسمى من الكاهن؟! يتحدّث من غير انقطاعٍ إلى الله والله يجيبه باستمرار. في أيّ طقسٍ أو صلاة في الكنيسة، الله يجيبه…. الكاهن ملاكٌ لا إنسان. عليه أن يَرمي كلّ ما هو أرضيٌّ بعيدًا عنه. يا سيّد “ليلبسْ كهنتك البِرّ!” (مز 132: 9) وليتذكّروا دائمًا عظمةَ دعوتهم، ولا يَقَعوا في شِباك العالم …”
كان الأب إميليانوس يقارن الكهنة بالمُستكشِفين الذين بعثَهم يشوع إلى مدخل أرض الميعاد لاستكشافها، وإحضار منتجاتها الغريبة، وذلك بهدف إثبات حقيقة الوعد للشّعب (يشوع 2). هكذا، الكاهن مدعوٌّ لاستكشاف خيرات الملكوت حتّى يُخبِر المؤمنين عن جمالها.
• الكرامة الكهنوتيّة بحسب الأب إميليانوس
إذ يتلقّى الكاهن هذه الكرامة الملائكيّة في رسامته، ينبغي أن يكون على هذا المستوى الرّفيع، وفي حالة مستمرّة من الألفة مع الحقائق الإلهيّة. وحتّى لو تعيّنَ عليه أن يمثُل أمام الله كغير مستحقّ، فيجب، أن يكون “بلا خطيئة”، “قدّيسًا في كلّ سيرة” (ابط 1: 15).
يجب أن يلازمَه ليلاً ونهارًا شعورُه بالأمان ليقينه أنّ اسمه مكتوبٌ في السّماوات. يجب أن يعيش قدّام الله كما لو انتصب دائمًا إزاء العرش السّماويّ، بالرّاحة الّتي يشعر بها أيّ شخصٍ في منزله، متيقّنًا أنّه في عهدة أبيه .
تمنّى الأب إميليانوس أيضًا أن يكون الكاهن رجلاً ممتلئًا فرَحًا، هذا الفرح النّاتج عن الغلبة على الأهواء وعلى الإنسان القديم، لا بفضل قواه الخاصّة إذ هو متأكّد من أنّه آخِر الخطأة، بل بقدرة المسيح وبنعمة الكهنوت.
هذه هي الحالة الّتي يتوقّعها منه المؤمنون العائشون في الاضطراب وعدم الأمان. فكيف يقول “السّلام لجميعكم” إن لم يملك هذا السّلام في داخله؟
حتّى يمدّ الكاهنُ الآخرينَ بهذا الشّعور بالأمان، عليه أن يكون، فوق ذلك، رجلاً مُنعَتِقًا من كلّ قلقٍ وهمٍّ عالميّ، لا أثناء الخدم اللّيتورجيّة وحسب بل خارجها أيضًا.
“إنسانٌ ذو مشاكل وضيقات لا يمكنه الاتّحاد مع الله” .
“يجب على الكاهن الّذي يستعدّ لصعود درجات الهيكل، ألاّ يكون عنده مشاكل، قدرَ الإمكان، لأنّ الخاطئ وحده يصلّي لنفسه ولمشاكله الخاصّة…”
في الواقع، إنّ الضّيق والقلق والحزن هي علاماتٌ على أنّه لا يزال من هذا العالم، وأنّه أنانيٌّ وعنده شهوات. “لأنّني سلّمت كلّ شيء لإرادة الله، ينبغي ألاّ يكون لديّ أيّ سبب للقلق مهما يعظُمُ شأنهُ. ” وبالتّالي، عليه أن يكون رجلاً هادئًا متمالكًا قواه، بحيثُ لا يضطرب عند حدوث خللٍ ما أثناء الخدمة.
ينبغي أن يمضي الكاهنُ اليوم بكامله كأنّه قبلة سلام متواصلة، أي أن يبقى بسلام مع جميع الّذين يعاشرهم، كمُصلحٍ دائم. كما عليه أن يكون في حالة دائمة من اليقظة، محافظًا على موقف رزين، متجنّبًا القهقهة في الضّحك والاسترسال في المزاح والاختلاط بالأنشطة الدّنيويّة.
عظمة هذه الكرامة مستقلّة عن قيمة الكاهن الشّخصيّة، عن فضائله. إنّها تأتي من نعمة الكهنوت الّتي يلبسها، وترمز إليها ثيابه المقدّسة الّتي من دونها لا يستطيع أن يقيم احتفالاً شرعيًّا.
• المصداقيّة
على الكاهن أن يكون أيقونةً حيّةً لسلوك المسيح وآلامه الخلاصيّة، لا في القدّاس الإلهيّ فحسْب، بل خلالَ حياتِه كلّها وسلوكِه الشّخصيّ. يجب أن يكون كلّ قدّاسٍ إلهيٍّ موتًا وقيامةً للكاهن.
أظهرَتْ تجربةُ العصور أنّه حيث وُجدَ أسقفٌ أو كاهنٌ قدّيس، تجدّدَت حياةُ الكنيسة وسار المؤمنون في خُطاه.
“كما أنّ النّور والحرارة كامنان في الشّمس، هكذا يجب أن تكون القداسةُ، والقدوةُ الصّالحة، والمحبّةُ، والرّحمةُ المطلقة، ملازمةً لشخص الكاهن. فبأيّ جلالٍ هو متوشّح؟ بجلال المسيح. وبمن يتّحد غالبًا؟ بالمسيح الإله نفسه وبدمه. إذًا ينبغي أن يكون الكاهن، في التّرتيب الرّوحيّ، وسطَ قطيعِه، كما هي الشّمسُ في ترتيب الطّبيعة: نورًا للجميع، وحرارةً مُحيِية، وروحَ الجميع” .
حتّى يعيشَ الكاهنُ حقًّا القدّاسَ الإلهيّ كإعلانٍ من الله، وحتّى ينقلَ هذه الخبرة إلى المؤمنين، يجب أن يتوارى، وألاّ يُثبِّتَ “أناه”، بل أن يصبحَ شفّافًا أمام القُوى الإلهيّة. وحده مَن تحرّر من أناه يستطيع المشاركة في هذه القداسة.
إذا كانت قداسة الله، تعني أوّلاً في الكتاب المقدّس “الانفصال”، فعلى الكاهن أن يشارك من خلال حياته في هذه القداسة، في هذا الانفصال عن كلّ شيء: “يجب أن يكون الكاهن ملاكًا بترفّع أفكاره، ونقاوة روحه وجسده، واضطرام حبّه لله” .
عليه إذًا أن يختبر حضور الله في الأسرار اللّيتورجيّة، حتّى يستطيع أن يشهد لذلك أمام الشّعب، لا بالكشف عن حياته الشّخصيّة، ولا بالتّصنّع حتمًا، بل بالانفتاح على عمل الله، صائرًا مرآةً ينعكس عليها الحضور الإلهيّ كأشعّة الشّمس.
كلّ تصنّع، (προσποιήσεις) أو موقفٍ منمَّقٍ، يثيرُ سخطَ المؤمنين واستهزاءَهم، لأنّ عندهم حسًّا فطريًّا بمصداقيّة الآخر. فبدلاً من التّقليد والتّصنّع بغية استقطاب إعجاب المؤمنين، يحتاجُ الكاهنُ أن يعملَ على كلّ ما يجعله “حقيقيًّا” وصادقًا.
• الأهمّيّة القصوى للاستعداد للقدّاس الإلهيّ
لبلوغ هذه الشّفافيّة، على الكاهن ألاّ يدنو من المذبح المقدّس ما لم يتهيّأ كما ينبغي و”ينفصل” عن العالمِ وهمومِه وانشغالاته، وذلك حتّى يشدَّ انتباهه وينفتح كلّيًّا على الحضور المهيب لله القدّوس.
كان الأب أفرام كاتوناكيا، الّذي تماهى كلّيًّا والقدّاس الإلهيّ، يقول إنّه بقدر ما نهيّئ أنفسنا، نتلقّى من القدّاس كلّ ما هو ضروريّ للدّنوِّ من الله. كان يعيش باستمرارٍ في جوّ القدّاس الإلهيّ، يومًا بعد يوم، من دون أيّ تشتّت. حالما ينتهي القدّاس صباحًا، يبدأ فورًا يستعدّ للقدّاس التّالي بالصّمت والتّيقُّظ لأفكاره وأقواله، وبالصّلاة غير المنقطعة.
طبعًا، إنّ هذا الاختبار القويّ للحياة اللّيتورجيّة غيرُ ممكن إلاّ لنسّاك يعيشون مثله، في “الصّحراء”، بعيدًا عن كلّ همٍّ. هؤلاء الرّجال هم مَن يعطوننا المعايير الصّحيحة للحياة في المسيح ولِما يجب أن يكون الكاهن عليه: لا شخصًا يُمضي وقته في الرّكض هنا وهناك ليكون فعّالاً، بل رجلاً شفّافًا إزاء حضرة الله.
شدّد الأب إميليانوس على أهمّيّة الصّوم والسّهر، وقبلَ كلّ شيء، على أهمّيّة تنمية الشّوق إلى الله.
استعدادًا للوقوف قدّام المذبح، يجب أن يتمكّن الكاهن من اختبار لقاءٍ حميمٍ مع المسيح. هذا اللّقاء لا يقتصر على إتمام فرض الصّلاة، الّذي نؤدّيه بذهن مشتَّت (مثل “القانون” أو خدمة الاستعداد للمناولة –المطالبسي-)، بل هو جهدٌ ليقرّب ذاته ذبيحةً قبل الذّبيحة. لا يخَصّصنَّ الأمسيّة السّابقة للقدّاس لجمع أفكارِ العظة الّتي سيلقيها أو للدّخول في حالةٍ من التّقوى المصطنعة. بل يجب أن ترتكز هذه التّهيئة على “الاختفاء قدّام الله”، وعلى إفراغ ذهنه ونفسه من كلّ فكر، ولو تَقَوِيّ، بُغية الوصول إلى حالةٍ من اللاّتشتّت، من إفراغ الذّات، بحيث يتجلّى الله وحده في الكلمات المقدّسة الّتي سيتلفّظ بها في القدّاس الإلهيّ.
“فيما أتهيّأ للمثول قدّام المذبح المقدّس، لإعادة الذّبيحة الّتي سبق أن تَمَّتْ مرّةً واحدة وإلى الأبد، عليّ أن أكون فاهمًا أنّني بلا جدوى تمامًا. لقد أتمّ المسيح كلّ شيء من أجلنا، وهو لا يحتاج إليّ مطلقًا. حينما أدخل إلى الهيكل لأقرّب ما قد تمّ إنجازه، هذا يعني أنّني لا أتوقّع شيئًا من مواهبي، ولا من جهادي النّسكيّ، ولا من نجاحاتي الرّوحيّة ودموعي وسجداتي وجهاداتي وعظاتي، ولا من أيّ شيءٍ فعلتُه أو يمكن أن أفعله. يجب أن أقترب منه ككائنٍ “غير موجود” .
كيف أقتني هذه الإلفة مع الله وأسراره؟ فقط بالموت عن الذّات وبعيش سرّ الصّليب.
“أعبّر عن هذا الشّوق المتأجّج بالصّوم والنّوم على لوح خشبٍ صَلْبٍ، وبالسّهرانات والآلام الّتي أقبلُها طوعًا، ولكن مع العلم أنّ هذا النّسك لا قيمة له في نظر الله. فهذه الإماتات كلّها هي مجرّد طريقة أعبّر بها لله عمّا أنتظره. واشتراكي في الصّليب هو إذًا التّعبير عن شوقي إلى الله”.
أثناء هذا “اللّقاء” اللّيليّ، سيجتهد الكاهن في العودة إلى نفسه، لا ليقوم بنقد ذاتيّ ولا ليفحص ضميره، بل ليدرك بطلانَه وحالته كإنسانٍ خاطئ، حالة أعمق من الخطايا الّتي قد ارتكبَها .
أن نصبح “شفّافين” يعني أن نعي تمامًا عجزنا عن فعل أيّ شيء لتحسين حالتنا البائسة، ولكنّنا نسلّم أمرنا ليد الله تسليمًا كاملاً. فقط حين يتمكّن الكاهن من القول بكلّ صدقٍ: “بنعمة الله أنا ما أنا” (ا كور15: 10)، يستطيع أن يدخل إلى الهيكل من دون خطرِ الوقوع في الضّلال، أو فريسة الوهم الرّوحيّ. إن وعى ضعفَه تمامًا، استطاع أن يشعر بسيادة النّعمة الفاعلة في الكنيسة.
• بعض الشّروط
للوصول إلى هذه الحالة، يجب أن يكون الكاهن “عديمَ الهوى”، أي لامباليًا بأيّ شأنٍ عالميّ، وأن يملك هوًى واحدًا: “السّعي نحو المسيح”.
سيعبّر عن حالته هذه كغريبٍ عن كلّ شيء بالامتناع عن كلّ انشغالٍ، واهتمام مفرط بشؤون المجتمع ورعيّته وأسرته. لا بدّ له من أن “يطرح عنه كلّ اهتمام دنيويّ”، حتّى قبل دخول الكنيسة. إذًا، سيُلقي بعيدًا كلَّ شكلٍ من أشكال الخيال، والمشاريعَ، وخططَ العمل، وما إلى ذلك، رادعًا ذهنَه عن التّجوّل هنا وهناك حتّى يحفظه من الأفكار.
هذه التّوصيات أعطاها الأب إميليانوس للكهنة الرّهبان، ولكنّها تصلح أيضًا من حيث المبدأ للكهنة العلمانيّين، الّذين يجب أن يكونوا، زيادةً عن ذلك، رجالاً واقعيّين، يتولّون مسؤوليّاتهم المدنيّة والعائليّة. كان القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم يقول عن الكاهن إنّ عليه أن يكون لا ملاكًا فحسب، بل قادرًا أيضًا على التّكيُّف ومختلف الحالات.
“يجب ألاّ يكون أقلّ اطّلاعًا على أمور الحياة من الّذين هم في العالم، ولكن عليه أن يبقى بعيدًا عن هذه الأمور كلّها… أن يكون” مُتنوِّعًا” divers في شخصيّته. لا أقول مخادعًا، ولا متملّقًا، ولا مرائيًا، بل مفعمًا بالحرّيّة والثّقة، عالمًا كيف يضع نفسه في متناول الآخرين… عليه أن يُبدي في الوقت نفسه طِيبةً من غير تملُّق …” .
• نقاط أخرى في الاستعداد للقدّاس الإلهيّ من تعليم الأرشمندريت إميليانوس
إنّ المعرفة العميقة لسرّ اللّيتورجيا، الّتي تمتّع بها الأرشمندريت إميليانوس، اكتسبها من تجارب مُعاشة في لحظات معيّنة من القدّاس الإلهيّ، واعتاد أن يركّز عليها بشكلٍ خاصّ. ولكن لكلّ كاهن أن يختبر بدوره لحظات أخرى مميّزة فيتهيّأ لها.
المفارقة أنّ الأب إميليانوس لم يشدّدْ كثيرًا على الكلام الجوهريّ، لأنّه، ابتداءً من الدّورة الكبرى، كان يختفي كإنسانٍ، بالمعنى الحرفيّ للكلمة، ولا يبقى هو من يقيم السّرّ، بل المسيح الكاهن الأعظم، الّذي يتمّم سرَّ حضوره، من خلال كلمات الأب وحركاته. كان يخدم بشغفٍ كبير، بعظَمة وجلال، ولكن في حالة من اللاّوجود الحقيقيّ.
بالمقابل، شدّدَ الأب إميليانوس على الدّورة الصّغرى، الّتي هي دخول الكاهن إلى السّماء برفقة الملائكة والقدّيسين.
لعبَت قراءة الإنجيل دورًا حاسمًا لديه، وهو بعدُ راهبٌ شابٌّ في دير “دوسّيكون”. وحافظ طول حياته على هذا الحسّ بحضور المسيح، ككلمة الله، عند قراءة الفصل اليوميّ. لهذا أوصى بإعطاء أهمّيّة خاصّة لتهيِئَةِ هذا اللّقاء مع كلمة الله. قراءة إنجيل اليوم ستصبح بالنّسبة إلينا “إنجيلاً شخصيًّا يكون فحوى قلوبنا” .
“الإنجيل اليوميّ هو كلمة وَحيي الشّخصيّ؛ إنّه اتّصالي بالمسيح اليوم… قبل إقامة السّرّ، أحتاج لما يكفي من الوقت للتّحدّث مع” إنجيلي”… أعيش إذًا الله الظّاهر والمختبئ في الإنجيل، وأستمتع بحضوره، وأمسك به في يدي، وأدعه يخاطبني. ويمكنني أن أؤكّد لكم أنّ الله لم يتركني يومًا، أثناء القدّاس، من دون أن يكشف لي محتوًى جديدًا من إنجيله”.
• بعض الكهنة القدوة
النّقطة المشتركة عندهم أنّ الاحتفال بالقدّاس أصبح نواة حياتهم ودعوتِهم. لم يكن عندهم خطّة رعائيّة، ولكنّهم عاشوا دعوتهم الكهنوتيّة بحماس، حتّى يجعلوا ملكوت السّموات حاضرًا بيننا.
– القدّيس يوحنّا كرونشتادت (1908، عيده في 20 كانون الثّاني)
ابن قندلفت. أبدى منذ الطّفولة شغفًا بالله وبالصّلاة. تزوّج من ابنة المتقدّم في الكهنة في كاتدرائيّة كرونشتادت، وعاش مع زوجته كأخ وأخت.
بالنّسبة له، تأتي نشاطات الكاهن كلّها، بما فيها من اهتمام بأبناء الرّعيّة كامتداد للسِّرّ الطّقسيّ، لكهنوت المسيح الّذي يتمّم الخلاص والتّقديس في البشر ضمن الكنيسة. لهذا أصرَّ على نقل هذا الحضور المُنير المحيي للرّبّ محبّ البشر إلى أكثر الأحياء بؤسًا وفسادًا منذ بدء عمله الرّعائيّ.
ذهب إلى كلّ مكان بلا دينونة لأحد، من أجل أن يصلّي ويحمل إلى هناك حضور المسيح. يدخل البيوت، فيحتضن الأولاد، ويقود الآباء إلى التّوبة بكلامه. يداوي المرضى، ويوزّع كلّ ما يملك إحسانًا على الفقراء، فيعود إلى البيت معظم الأحيان بلا حذاء، ولا معطف.
بفضل هبات المؤمنين، نجح في تأسيس “بيت العمل”، وهو مؤسّسة خيريّة لها مبنى وسيع، تتضمّن كنيسة، ومدرسة، ومآوي، ومشاغل… هناك، إلى جانب المساعدات المادّيّة، لَقِيَ آلاف المُعوَزين كرامتَهم، بفضل التّنشئة المهنيّة والكنسيّة.
“على الكاهن أن يرأف بالعالم أجمع. عليه أن يكون كلّ شيء للنّاس كلّهم”.
وهب الله لصلاته قوّةً عجيبة على شفاء الأجساد والعودة بالنّفوس إلى الله، وتعزيتها في الأحزان، ولم ينفكَّ يرشده إلى رسالته: “أن ينبري عمود صلاة حيّة وتشفّع لسائر الشّعب، ويغدوَ “راعي روسيّا”. في النّصف الثّاني من حياته، لم يبقَ هو يذهب إلى الشّعب، بل صار الشّعب يتدفّق حشودًا إلى كرونشتادت لحضور قدّاسه الإلهيّ.
أمّا هو، فإذ ينهض عند الثّالثة فجرًا، يذهب إلى الكنيسة المكتظّة بالنّاس، منذ تلك السّاعة، لصلاة السَّحر. في وقت الذّبيحة الإلهيّة، كان يؤتى بالقربان في سلال عملاقة، مع لوائح من الأسماء لا تنتهي. فيأخذها الأب يوحنّا بيده، ويرفع إلى الله صلاة حارّة، وكأنّه يخصُّ كلاًّ من المذكورين فيها بتضرّعه. فاحتفاله بالقدّاس الإلهيّ مشهدٌ يأسر القلوب: يقف قدّام المائدة المقدّسة كمن ينتصب إزاء عرش إله المجد، فيخاطبه بلهجة تحرّك أقسى القلوب، ولا يتناول قطّ إلاّ بعد أن يبلّل وجهه بدموعه. قال مرارًا: “أموت إن لم أحتفل بالقدّاس”.
لقد حضر القدّيس سلوان أحد قداديس الأب يوحنّا في شبابه، وشهدَ أنّ المرء لا يستطيع أن ينظر إليه من شدّة تجلّيه بالحضرة الإلهيّة.
ولمّا تعذّر عليه الاستماع إلى اعتراف كلّ أحدٍ على انفراد، استعاد المؤمنون تلقائيًّا ممارسة قديمة هي الاعتراف العلنيّ، حيث يأتي التّائبون ويعترفون بدموع بخطاياهم قدّام إخوتهم، ثمّ يتقدّمون ليَنْهَلوا من مَعين الحياة الجديدة بالمناولة الإلهيّة.
بكلامه وبسلوكه على السّواء، حاز الأب يوحنّا نعمة مشاركة الآخرين إحساسه العجيب بحضرة المسيح:
“أتنفّس يسوع أكثر من الهواء، في كلّ لحظة من لحظات حياتي. هو نوري قبل أيّ نور، هو طعامي وشرابي، وكسائي وعطري وحلاوتي وأبي وأمّي، هو أرض أَثبَتُ من الأرض، تَحمِلُني وليس ما يزعزعها”.
بعد القدّاس الإلهيّ، الّذي ينتهي قُبَيل الظّهيرة، يمضي نهاره يتلقّى طلبات الصّلاة، ويتفقّد أعماله، ويحمل إلى أتعس النّاس الإيمان والرّجاء والفرح. لم يعُد إلى بيته إلاّ في ساعة متأخّرة من اللّيل. ورغم فيض نشاطاته، لم ينشغل فكره قطّ عن الصّلاة، لأنّه صار إلهًا بالنّعمة، فأضحت أعماله وأقواله صلواتٍ مشحونة بالطّاقة الإلهيّة…
-القدّيس نيقولاوس بلاناس PLanas
( 1932، أُعلنَ قدّيسًا سنة 1992، وعيده في 2 آذار)
وُلِدَ سنة 1851 في جزيرة ناكسوس، وتميّز ببساطة طويّته، وتقواه، وكرَمه.
تزوّج في عمر السّابعة عشرة، ثمّ توفِّيَت زوجته بعد سنوات قليلة. فعَهَدَ ابنَه إلى أقرباء له، وتكرّس لله تكريسًا كاملاً. شُرطِنَ كاهنًا سنة 1884، فخدم في كنيسة متواضعة يقال لها القدّيس يوحنّا الصّيّاد، لا تتعدّى رعيّتها الثّماني أسَر، ولم يتلقَّ منها أجرًا يُذكَر.
ورغمَ اتّضاعه وقلّة علمه، أضحى الأب يوحنّا أشهر كاهن في أثينا. فعلى مدى اثنين وخمسين سنة، أقامَ يوميًّا خدمة القدّاس الإلهيّ في مختلف كنائس المدينة، سيّما في كنائس الرّيف شبه الخرِبة. طابق بين حياته وحياة الكنيسة، فلم يرضَ البتّة أن يقرّب الذّبيحة غير الدّمويّة من غير أن يُرْفِقَها بكامل الخدَم الكنسيّة، كما تُقام في الأديار. يبدأ السّاعة الثّامنة وينتهي حوالي الثّانية أو الثّالثة بعد الظّهر. وأثناء الذّبيحة، يذكر أسماء الأحياء والأموات مدّة ساعتين أو ثلاث، وقد دُوِّنَت على آلاف الأوراق الصّغيرة المكدّسة بترتيب، يحملها دومًا معه. ذلك أنّه إذا أعطيَ أسماءً للذِّكرانيّة، يبقى يذكرها مدّة سنوات، مهما يكن المبلغ الّذي يرافِق الأسماء للذِّكرانيّة. وعلى طلب المؤمنين، يقوم بسهرانيّات طول اللّيل، ويؤدّي صلوات الابتهال (البراكليسي)، وخدمة الزّيت المقدّس، وسواها، من غير أن يحسب حسابًا لوقته، ولا لتعبه. غالبًا ما يقرأ خلال القدّاس الإلهيّ ثلاثة أو أربعة أناجيل، ببطء، متهجّيًا الكلمات الصّعبة، من غير أن يثير الضّحك أبدًا، وفي النّهاية يتلو لائحة طويلة من أسماء القدّيسين، كما لو لم يشأ أن ينسى ذكر أحد أحبّاء الله الحاضرين حضورًا غير منظور. وكثيرًا ما رآه الأولاد والأتقياء مرتفعًا عن الأرض أثناء القدّاس الإلهيّ.
تلك القداديس الّتي قام بها الأب نيقولاوس كانت دروسًا في التّصوّف تعود بأصلب القلوب إلى التّوبة، وتجتذب جموع المؤمنين، خاصّة في السّهرانات طول اللّيل، في كنيسة النّبيّ أليشع، حيث رتّل المُلَحِّنَان الكنسيَّان الشّهيرَان اسكندر باباديامانديس (+ 1911) واسكندر موراييديس (+1929).
كان الكاهن القدّيس مستعدًّا أبدًا لإقامة الصّلوات، في أيّ مكان، ولذكر النّاس جميعًا في صلاته، الأغنياء كما الفقراء. لم يحتفظ قطُّ إلى المساء بما يُعطى من مال المؤمنين، بل كان يوزّعُه حالاً على المحتاجين، أو يخصّصه لعملٍ كنسيّ.
اكتفى ببضع قروشٍ يعيش منها، فيأكل بعض الخبز والأعشاب الّتي يجمعها هنا وهناك، أو يشرب كوبَ حليبٍ يقرّبه له الرّعيان. أضاء وجهه على الدّوام كالطّفل الصّغير، حتّى استحال أن يكون له أعداء: فهو يغفر لمن يسرقه، ويعذُر من يشتمه أو يتكلّم عليه بالسّوء، وهكذا يتجاوز مصاعب الحياة كلّها بنعمة المعزّي السّاكن فيه. أمرٌ واحدٌ أزعجه: أن يقطع أحد عليه صلاتَه، أو أن يُحرَمَ إقامَة الصّلوات الإلهيّة.
وإن مرّ في الطّريق، وهو يسير ببطءٍ وصعوبة من كثرة الوقوف ساعات لا تنتهي في الكنيسة، يجري خلفه الأولاد، وترسم النّساء إشارة الصّليب، والرّجال ينزعون قبّعاتهم ويتنحّون جانبًا بفائق الاحترام حتّى يمرّ. ويتشاجر سائقو الأجرة لأنّ كلاًّ يريد أن يأخذه في سيّارته، عالمًا أنّه سيُرزق غلّةً وافرة في ذلك اليوم. ورغم تشدّده حيال نفسه، أظهر الأب نيقولاوس لينًا كبيرًا في تعاطيه والمؤمنين المتقدّمين للاعتراف لديه، ولنوال التّعزية من الآب السّماويّ. فهو يسبر غور النّفوس، ويتنبّأ بالمستقبلات…
– الأب ديمتري غاغاستاثيس ( 1975)
منذ طفولته، زاول يوميًّا كنيسة رؤساء الملائكة، الّذين كان يسألهم كلّ ما يحتاج، فيستجيبون له. قال عنه الأب إميليانوس: “السّماء لم تصمَّ أذنها يومًا عن صلواته” ، وقد ربطته به صداقة متينة، وطّدتها القداديس الّتي شاركا فيها معًا، حيث اختبرا ظهورات إلهيّة.
قال: “كلّما أردتُ أن أسأل أمرًا، أخذتُ أوّلاً البطرشيل، ومن بعده المسبحة”. لم يخطر له يومًا أن يقلق أو يرتاب في عدم استجابة الله صلاته. اعتاد أن يعطي أوامر للقدّيسين: “اليوم أودّ أن تتمّموا لي العجيبة الفلانيّة”، فسرعان ما يتحقّق.
كلَّ ليلة يصلّي من منتصف اللّيل إلى الثّالثة فجرًا، موقظًا زوجته بطَرقِ ناقوس صغير، لتجيب أثناء الطّلبات بعبارة “يا ربّ ارحم”. قال إنّه علينا الصّلاة في اللّيل، حينما تُرتكَب الخطايا، ويقوم السَّحَرة بتعويذاتهم، الّتي تتعطّل بالصّلاة. كان يذكر أسماء لا تنتهي، ويحمل القرية كلّها في صلاته على الدّوام.
في القرية هابَهُ النّاس، فصالح المتخاصمين، وحلَّ المشاكل، ووزّع المال على المحتاجين، والسّكاكر على الأولاد. حضر في كلّ شأن من شؤون القرية، ولكنّه بقي خارجًا، يقيم في السّلام، وأمان السّماء، بالقوّة الّتي استمدّها من حياته الصّوفيّة… رأى الأب ديميتري كلّ شيء في بعد الأبديّة”.
ملأ قريته بالإيقونات والصّلبان، وهي علامات حضرة الله.
أثناء الحرب العالميّة، أنقذ أهل القرية مرارًا من الشّيوعيّين والألمان. كما أنّه اقتنى موهبة الدّموع أثناء القدّاس الإلهيّ والصّلاة. هذه نزلت تلقائيًّا من عقله إلى قلبه، وتوقّفت هناك كما كان يحدث لأعظم الهدوئيّين، ولم يخطرْ له يومًا أنّه أمر فائق الطّبيعة.
ذات يوم، وهو يقيم القدّاس الإلهيّ في دير “دوسّيكون” مع الأب إيميليانوس، سأل المرتّل أن يؤدّي قطعة “المجد” (ذوكصا) للقدّيس بيصّاريون مؤسّس الدّير. وإذ به يمسك بيد شريكه في الخدمة، فيظهر لهما القدّيس بصّاريون ويشاركهما في الخدمة لبعض الوقت. فهو أثناء القدّاس الإلهيّ، بدا أشبه بأحد الشّاروبيم كثيري الأعيُن. وسأل الآخرين ألاّ يصلّوا لأجله قائلاً إنّه لا يستحقّ.
-الأب أفرام (+1998)
هذا أيضًا أضحى كلّه قدّاسًا إلهيًّا، ومن كثرة ما اعتاد الرّؤى أثناء القدّاس، استغرب إذا قال له الآخرون إنّهم لم يروا الشّاروبيم حول المذبح كما رآهم هو، ولا المسيح ظاهرًا على طبق القربان.
-الأب تيخون (+1971)
يشهد الأب باييسيوس، الّذي كان يخدمه، أنّ قدّاسه دام أحيانًا أكثر من خمس ساعات، بسبب ما تخلّله من الدّموع والانخطاف.
-القدّيس يوستينوس بوبوفتش (+ 1979)
هذا اللاّهوتيّ المعروف لتشدّده، استحال عليه أن يقيم القدّاس الإلهيّ من غير أن يبلّل أفلونيّته بالدُّموع.
-الأب بورفيريوس (+1994)
تعرّض للإزعاج، أثناء إقامته القدّاس الإلهيّ في كابيلاّ المستوصف، عند ساحة أومونيا في أثينا، فأوشك أن يتخلّى عن مهامّه. ولكنّه رأى كتاب دروس الفيزياء الخاصّ بأحد التّلاميذ، وفيه اختبارات عن الحجارة الّتي تُرمى في الماء، فتثير دوائر وتموّجات وفق وزنها. فأدرك أنّ قوّة صلاة الكاهن يمكنها أن تغلب الإزعاج الّذي سبّبه له صخبُ متجر الأسطوانات وما يبثّه من أغانٍ مبتذلة. فيما بعد، تمكّن من إقامة القدّاس الإلهيّ من دون أن يسمع هذه الأغانيّ إطلاقًا.
-القدّيس أليكسي من بورتسومانا
(عيده في 21 نيسان، أُعلنَت قداستُه سنة 2000)
وُلِدَ سنة 1762 و خدَمَ طول حياته في كنيسة قرية بورتسومانا، في مقاطعة نيني- نوفغورود Nijni- Novogorod (الرّوسيّة). في السّنوات الأولى من خدمته، لم يُظهِر سلوكًا قويمًا، وحدثَ له أن يتعاطى المُسكِر. ذات يوم، جاء مَن يسأله أن يذهب لمناولة مريض يُحتَضَر، في القرية المجاورة. فغضب الأب أليكسي وطرد الرّجل المستجير به، مدَّعيًا أنّ حال المريض ليست على هذه الدّرجة من الخطورة، ويمكن انتظار اليوم التّالي. ولكنّه لم يتمكّن من النّوم، فذهب إلى المريض، ليجده قد فارق الحياة، وبقربه ملاكٌ يحمل كأس المناولة. أثّرت هذه الرّؤيا في الأب أليكسي أيَّما تأثير، فجثا على ركبتيه، وأمضى اللّيل في الصّلاة.
منذ تلك اللّيلة، صار يقيم القدّاس الإلهيّ كلَّ يوم من دون تغيير، وبدأ يعيش حياة الرّهبان. في منتصف اللّيل، يتلو صلاة نصف اللّيل، ومزامير السّحَر، وسيرة قدّيس اليوم. وعند الفجر، يتلو الصّلوات الصّباحيّة، والسّاعات، وعدّة مدائح للقدّيسين. عند الظّهر، يقرأ أربعة كاثسماطات من كتاب المزامير، وفي المساء قانون يسوع ومديح يسوع، وقانون الملاك الحارس، والصّلوات المسائيّة، مع السّجدات، وصلاة يسوع. وكلّما استيقظ في اللّيل، عمل سجدات، بحيث توصّل أن يصنع ألفًا وخمسمئة سجدة في اليوم. وفي الوقت المتبقّي، بعد انتهاء الصّلوات الطّقسيّة، يستقبل المؤمنين…
قبل رقاده بتسع سنوات، قطع سائر نشاطاته الرّعائيّة والعائليّة ليقيم في قلاّية لها نافذة واحدة تطلّ على الكنيسة. تغرّب عن كلّ اهتمام دنيويّ، ووقفَ نفسَه على الصّلاة. شابه القدّيس سيرافيم ساروف إلى حدّ كبير، ومثلَهُ نشرَ من حوله أنوار فرحه الرّوحيّ. نفذت نظراته إلى كلّ مَن دنا منه، وكأنّه قرأ أعمق ما في دواخله من الأفكار. لم يقتَنِ في قلاّيته سوى قِدْرٍ صغيرٍ، وسريرٍ خشنٍ، وطاولةٍ مع بضعة كراسي، ومِقرأ موضوع إزاء إيقونةٍ وقنديلٍ مُضاء. شُغلُه الشّاغِل كان الصّلاة، وإتمام الخدَم الكنسيّة كاملةً. في كلّ وقتٍ وساعة، وجده الزّائر غارقًا في الصّلاة…
أوصى القدّيس سيرافيم كلَّ من أتاهُ من منطقة القدّيس أليكسي أن يعود أدراجَه، ويذهب ليأخذ بركته، قائلاً: “بفضل صلواته، يشبه هذا الرّجل شمعة مضاءة إزاء مذبح الله العليّ. ورغمَ أنّه لم يتمّم نذوره الرّهبانيّة، فاقَ رهبانًا كثيرين. إنّه أقرب إلى نجمِ يضيء في الأفق المسيحيّ”. تكاثرت العجائب عند قبره، وهو مكرَّمٌ إلى يومنا هذا.
ألا منحنا الله أن نقتدي، على طريقتنا، بهؤلاء الكهنة القدّيسين، الّذين شهِدوا لحضرة الله بين المؤمنين.