وصلنا من القدّيس يوحنّا الدمشقيّ (+750)، الذي عيده في الرابع من كانون الأوّل، مقالتان جداليّتان موضوعهما الدين الإسلاميّ الناشئ، وعنوانهما “الهرطقة المائة”، و”مجادلة بين مسلم ومسيحيّ”. ويذهب غالبيّة الخبراء – وليس كلّهم – إلى الاعتراف بصحّة نسبتهما إلى الدمشقيّ. ونحن نميل إلى تصديق القول بنسبة هاتين المقالتين إلى يوحنّا لأسباب سوف تتّضح شيئًا فشيئًا خلال عرضنا لهما، بدءًا من التأكيد على معرفة الدمشقيّ العميقة بالإسلام وبـالقرآن، ومرورًا بالشبه التامّ بين الحجج اللاهوتيّة التي يستعملها كاتب المقالتين المذكورتين وبين الحجج التي يعرضها يوحنّا في كتابه الشهير “المائة مقالة في الإيمان الأرثوذكسيّ”.
يبدو يوحنّا عالـمًا بالدين الإسلاميّ وبالإشكاليّات التي كانت موضع نقاش بين المسلمين من معاصريه. فهو عارفٌ، مثلاً، بالاعتقاد الإسلاميّ بكون الله نفسه خالق الخير والشرّ معًا، على العكس من الإيمان المسيحيّ بأنّ الله قد خلق الإنسان صالحًا ووهبه “حرّيّة الاختيار” التي أدّت بالإنسان إلى ارتكاب الخطيئة والسقوط في الرذائل والشرّ. وهو عارفٌ بالنقاش الذي بدأ يظهر بين المسلمين في شأن مسألة كون كلمة الله مخلوقة أم غير مخلوقة. وعارفٌ أيضًا بمسألة انقسام المسلمين بين تيارَي القدَريّة والجبريّة.
يركّز يوحنّا في ردّه على هذه المسائل جميعًا على التمييز بين ما يشاؤه الله من جهة وبين ما يسمح به من جهة أخرى. وهنا نجده يستعيد المقالة الثانية والتسعين من “الإيمان الأرثوذكسيّ” وعنوانها “في أنّ الله ليس هو علّة الشرور”، بالإضافة إلى المقالة الرابعة عشرة وعنوانها “ميزات الطبيعة الإلهيّة” التي ورد فيها أنّ “الله يقدر على كلّ ما يشاء، ولكنّه لا يشاء كلّ ما يقدر عليه”. وهذه العبارة الأخيرة سوف يتبنّاها المتكلّمون المعتزلة (إحدى الفرق الإسلاميّة) والمعتقدون بالقدَريّة. لذلك عندما يطلب المسلم من المسيحيّ (في نصّ المجادلة) أن يعذر اليهود لأنّهم بتسليمهم المسيح إلى الصلب قد أتّموا مشيئة الله يجيبه المسيحيّ بقوله: “ما تدعوه أنتَ مشيئة الله أدعوه أنا سماحًا وحِلمًا”.
كما يبدو أنّ التمييز بين المعنى المجازي والمعنى الحرفيّ لقراءة النصوص الدينيّة كان قد بدأ يظهر في صفوف المسلمين، ذلك أنّ يوحنّا يدعو المسلم إلى عدم أخذ الكلام الإلهيّ بمعناه الحرفيّ أو الظاهريّ، بل ضرورة البحث عن التأويل أو عن المجاز في فهم الآيات. ولأنّ المسلمين كانوا آنذاك قد بدأوا بالتفكّر بمسألة كون القرآن، كلمة الله بالنسبة إليهم، مخلوقًا أم غير مخلوق، يجيب يوحنّا على سؤال المسلم المشكّك بأزليّة المسيح-الكلمة بضرورة التمييز بين ما هو كلمات صادرة عن ذات الله أو عن كلمته، وبين كلمات هي صادرة بوحي منه ولكن بواسطة كتّاب ملهمين منه. في هذا السياق، يكون المسيح-كلمة الله وحده غير مخلوق ومتميّز عن باقي الكلمات. ثمّة في الله كلمة واحدة غير مخلوقة، أمّا الكتاب المقدّس فلا نسمّيه كلمات الله بل إبلاغات إلهيّة.
في حديثه عن التجسّد الإلهيّ، يطلب يوحنّا من المؤمن المسيحيّ اللجوء إلى الآية القرآنيّة: “وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاكِ وطهّركِ واصطفاكِ على نساء العالمين” (سورة آل عمران، 42)، وذلك للردّ على استهجان المسلمين كيفيّة حلول الإله في حشا امرأة. ثمّ يستعيد يوحنّا ما كتبه في مؤلّفه الشهير “الإيمان الارثوذكسيّ”، ممّا يؤكّد لنا أنّ الكاتب هو نفسه في النصّين.
ويسعنا هنا أن نستنتج بأنّ يوحنّا عندما وضع كتابه “الإيمان الأرثوذكسيّ” لم يغِب عن باله تكاثر عدد المسلمين في المحيط الذي يعيش فيه وعن تحدّيهم إيّاه، فجاءت بعض مقالاته في هذا الكتاب تردّ على بعض التحدّيات الإيمانيّة التي طرحها المسلمون في وجه المسيحيّين كالمقالات الآتية على سبيل المثال لا الحصر: 1) “البرهان على أنّ الله واحد لا كثرة”. 2) “إيضاح منطقيّ في الكلمة ابن الله”. 3) “كيف الثلاثة إله واحد”. 4) “في الصليب والسجود له”. 5) “في السجود للأيقونات”.
عبر قراءتنا مقالة “الهرطقة المائة” يبدو لنا يوحنّا الدمشقيّ ضالعًا في معرفة الإسلام، وذلك على الرغم من استعماله عبارات مليئة بالتشنيع والسخرية من الديانة الجديدة ومن أتباعها. غير أنّه يجب ألاّ يغيب عن بالنا السياق الذي وُجد فيه
يوحنّا واضطراره إلى صدّ الخطر الكبير الذي شكلّه انتشار الإسلام في كلّ بقاع الشرق المسيحيّ. كان زمن يوحنّا زمن صراع من أجل البقاء، فدخول الإسلام إلى بلاد الشام قد أخاف المسيحيّين من الوافدين الجدد المعتنقين ديانة تخالف معتقدهم وتدعوهم إلى التخلّي عن إيمانهم. كان زمن يوحنّا زمن الدفاع عن الإيمان المستقيم، لذلك لم يوفّر يوحنّا أيّ سلاح يفيده في معركته ضدّ الديانة الجديدة.
لا يسعنا الحديث عن حوار مسيحيّ-إسلاميّ في زمن القدّيس يوحنّا الدمشقيّ، في زمن شهد صعود الديانة الإسلاميّة وسيطرتها على البلاد التي شهدت ولادة المسيحيّة وازدهارها. هو زمن الصدام الفكريّ والدفاع عن الإيمان المسيحيّ بالكلمة والجدال الذي لا يرى إلاّ قباحات الآخر. لذلك رأينا الدمشقيّ الغيور على الإيمان المستقيم يبحث عن النقاط الأكثر إثارة لاشمئزاز المسيحيّين كي يثبّتهم على إيمان آبائهم وأجدادهم.