يدعو القدّيس بولس الرسول المؤمنين إلى الانسجام في تصرّفاتهم ما بين القول والفعل. وهو يجعل نفسه، في هذا الأمر، مثالاً لنا بقوله: «فأنا أحاول أن أرضي جميع الناس في كلّ ما أعمل، ولا أسعى إلى خيري، بل إلى خير الكثرة من الناس لينالوا الخلاص. إقتدوا بي كما أنا بالمسيح» (١كورنثوس ١٠: ٣٣، ١١: ١). يشاء الرسول أن يقول، عبر هاتين الآيتين، إنّ ما من أحد يقدر على أن يبني غيره، إلاّ إذا اجتذبه بحسن سيرته. أمّا الذين يعملون بما يريدون فيسعون إلى منفعتهم، وهم يبحثون عن مجد أنفسهم، لا عن مجد الله، ويبحثون عن إرضاء أنفسهم، لا عن إرضاء الله.
يطلب الرسول بولس، في رسالة اليوم، من أهل رومية أنّنا، نحن الأقوياء، يجب علينا أن نحتمل وهن الضعفاء ولا نرضي أنفسنا، بل «فليُرضِ كلّ واحد منّا قريبه للخير لأجل البنيان» (رومية ١٥: ١-٢). يلاحظ العلاّمة أوريجنّس الإسكندريّ (٢٥٤+) أنّ هاتين الآيتين قد تتناقضان، ظاهريًّا، مع ما يقوله الرسول في موضع آخر: «فلو كنتُ إلى اليوم أطلب رضى الناس لما كنتُ عبدًا للمسيح» (غلاطية ١٠: ١). ويستطرد أوريجنّس نفسه موضحًا ما قد يبدو أنّه تناقض، فيقول: «إرضاء الآخرين للفوز بمديحهم شيء، وإرضاؤهم لتكون سيرتك بلا عيب في سبيل بنيانهم شيء آخر. إنّنا لم نُدعَ إلى إرضاء الآخرين بما يخالف الإيمان، والكرامة، والتقوى». الهدف الأسمى لدى بولس ليس إرضاء القريب مهما كان الأمر، بل بنيانه وفق الربّ يسوع المسيح. ثمّ ينصح الرسول بولس، في رسالة اليوم، أهل رومية بالاقتداء بالربّ يسوع الذي «لم يُرضِ نفسه، ولكن كما كُتب (مزمور ٦٨: ٩): تعييرات معيّريك وقعت عليّ» (رومية ١٥: ٣). ما أراد المسيح أن يرضي نفسه، بل أراد أن يرضي الناس، أي أن يخلّصهم، فاحتمل الخزي والعار، وقبل الآلام والصلب والهزء كي يهب الخلاص للعالم. مَن يريد الاقتداء بالربّ لا يطلب مصلحته الشخصيّة. فالمسيح مات من أجل أن يحيا الآخرون، وقبل التعييرات، وذاق منها أمرّها. هكذا المؤمنون يجب عليهم، اقتداءً بالربّ، أن يقبلوا بتعييرات الآخرين في سبيل إرضاء الله، وفي سبيل بنيان الجماعة. يقدّم لنا القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم (٤٠٧+)، في شرحه الآية: «إنّ المسيح لم يرضِ نفسه»، أمثلة عدّة أبان فيها بولس الرسول نفسه، في مواضع عدّة من رسائله، كيف أنّ المسيح لم يبحث عن إرضاء نفسه، بل عن خلاص العالم. فعندما تكلّم بولس على عمل الرحمة قدّم لنا المسيح بقوله: «فأنتم تعرفون نعمة ربّنا يسوع المسيح، فقد افتقر لأجلكم وهو غنيّ، لكي تستغنوا أنتم بفقره» (٢كورنثوس ٨: ٩). وعندما حثّهم على المحبّة، أورد مثال المسيح بقوله: «واسلكوا في المحبّة كما أحبّنا المسيح أيضًا وأسلم نفسه لأجلنا، قربانًا وذبيحةً لله رائحةً طيّبة» (أفسس ٥: ٢). وعندما نصحهم بتحمّل العار والمخاطر، لجأ إلى المسيح فقال: «ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمّله يسوع، الذي من أجل السرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب مستهينًا بالخزي، فجلس عن يمين عرش الله» (عبرانيّين ١٢: ٢)…
«وليُعطِكم إله الصبر والتعزية أن تكونوا متّفقي الآراء في ما بينكم بحسب المسيح يسوع، حتّى إنّكم بنفس واحدة وفم واحد تمجّدون أبا ربّنا يسوع المسيح» (رومية ١٥: ٥-٦). لا يطلب الرسول بولس مجرّد اتّفاق الآراء، أو مجرّد الإجماع على رأي واحد، بل يشترط أن يتمّ ذلك وفق تعاليم الربّ يسوع. قد يتّفق المسيحيّون كلّهم على رأي واحد، لكنّه في الوقت عينه لا يتّفق وما يقوله الربّ يسوع. ليس هذا النوع من وحدة الرأي ما يدعو إليه الرسول بولس، بل هو يشترط أن تكون قاعدة الرأي الواحد قائمة
على تعاليم الربّ يسوع، لا على سواه. وهنا يبدو القدّيس الذهبيّ الفم واضحًا حين يقول: «هذا ما تفعله المحبّة: أن يهتمّ المرء بالآخر لا بنفسه. وليبيّن أنّه لا يطلب مجرّد المحبّة، يضيف: على حسب يسوع المسيح». يقول الربّ يسوع: «إن اتّفق اثنان منكم على الأرض في أيّ شيء يطلبانه فإنّه يكون لهما من أبي الذي في السموات» (متّى ١٨: ١٩). لكنّه في الآية التالية يشترط أن يكون الاتّفاق «باسمه»، فيقول: «لأنّه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم» (الآية ٢٠). يلاحظ أوريجنّس أنّها بلا شكّ لبركة عظيمة أن يتفاهم جميعهم وأن يستبينوا الرشد في فكر واحد، لكنّ وحدة الرأي، أو وحدة الكلمة، لا تقوم سوى على الربّ يسوع المسيح وحده. هكذا علينا أن نحيا بإجماع الكلمة، فيطلب كلّ منّا الخلاص للآخر كما لو أنّه خلاصه الذاتيّ، تمامًا كما افتدى المسيح بموته كلّ إنسان من الموت. «من أجل هذا فليتّخذ بعضكم بعضًا كما اتّخذكم المسيح لمجد الله» (رومية ١٥: ٧). يقول القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم انطلاقًا من هذه الآية: «فلنُطعْ هذه الوصيّة وليتّخذ أحدنا الآخر. فإذا أراد أحدهم أن يقطع علاقته معك، فلا تبادله الشيء ذاته… بل أظهر له المزيد من المحبّة لتجتذبه إليك. إنّه عضو في الجسد، وعندما ينفصل عضو عنّا، علينا أن نبذل قصارى جهدنا لنتّحد به ثانية، ونغمره بعنايتنا واهتمامنا». وفي السياق ذاته يقول القدّيس كيرلّس الإسكندريّ (٤٤٤+): «نحن جميعًا جسد واحد وأعضاء بعضنا البعض. فالمسيح يُلزمنا أن نتّحد بعضنا بالبعض برباط المحبّة». وحدة في المحبّة، ومحبّة في الوحدة.