بالنظر إلى سياق تقسيم كتاب المزامير، يأتي موقع المزمور ١٠٣ (١٠٤ في الترقيم العبريّ) في خاتمة القسم الرابع (أي المزامير ٨٩-١٠٥) مباشرة قبل المزمورين ١٠٤-١٠٥ اللذين يختمان هذا القسم بالحمد للربّ وبتعداد معجزاته وإحساناته لشعبه الناكر الجميل: «إحمدوا الربّ وادعوا باسمه. أخبروا في الأمم بأعماله» (١٠٤: ١) و«إحمدوا الربّ لأنّه صالحٌ. لأنّ إلى الأبد رحمته» (١٠٥: ١) – أو المسمّاة مزامير الـ «هلّل» أو التّهليل (هلّيلويا) لله لصفحه عن شعبه، ولإعادة بناء الهيكل، وللعودة من السبي في السيّاق التاريخيّ. لذلك يأتي المزمور ١٠٣ ليدعو في مطلعه: «باركي يا نفسي للربّ. أيّها الربّ إلهي لقد عظُمتَ جدًّا. بالبهاء والجلال تَسربلتَ» – كدعوة من داود «الأخرويّ» أيقونة المسيح – إلى إجلال الملك الحقيقيّ: الربّ الخالق المتسربل بجلال الخليقة. ولأنّ «إلهنا نارٌ حارقة» و«لا يراني إنسان ويحيا»، لذلك كان السحاب (الغمام) مرافقًا وملازمًا حضور الله، لحماية الإنسان من نار الألُوهة: «الجاعل السحاب مركبته».
في تقليد الكنيسة الأرثوذكسيّة الليتورجيّ، تستهلّ الكنيسة الصلوات اليوميّة بصلاة الغروب مساء كلّ يوم بتلاوة المزمور ١٠٣. وتبرير ذلك واضح بشكل وافٍ من المزمور عينه: «صنع القمر للأوقات والشمسُ عَرَفت غُرُوبها. صَنعتَ الظلمة فكان ليلٌ وفيه تسري جميع وحوش الغاب» (١٩-٢٠).
ومع أنَّ الصلاة تأتي في سياق امتداد ظلام المساء، كانت صلاة الغروب دائمًا توحي بوقت النُّور لا الظلمة. وهو منظور مُستوحى من نوعيّة كلّ من خاصّيّة الغَسق وغروب الشمس من جهة، ومن طقوس إنارة الشموع من جهة أخرى. هذه الملاحظة حول نور الغروب تظهر بوضوح في تقليد الكنيسة الليتورجيّ، ويظهر ذلك بخاصّة عبر نشيد الغروب القديم «يا نورًا بهيًّا…»، مطلع المزمور يثبّت هذا الانطباع ذاته: «الاعتراف وعظَم الجلال تسربَلْت. اللابس النُّور مثل الثوب» (١-٢).
مزمور الغروب هو واحد من المزامير التي يقدّم لها العهد الجديد، على الأقلّ، مفتاحًا لتفسيرها. كاتب الرسالة إلى العبرانيّين يستعير من مطلع آياته تلك التي تتكلّم على الملائكة: «الصانع ملائكتَهُ أرياحًا وخدّامَهُ نارًا تتلهّب» (عبرانيّين ١: ٧)، ليفسّرها قائلاً: «أَلَيْسَ جَمِيعُهُمْ أَرْوَاحًا خَادِمَةً مُرْسَلَةً لِلْخِدْمَةِ لأَجْلِ الْعَتِيدِينَ أَنْ يَرِثُوا الْخَلاَصَ؟» (١: ١٤). حيث لا يغفل التركيز على عظم محبّة الله، لأنّ خدّام محبّته ليسوا مجرّد «نار» ولكن «لهيب» نار.
هو ليس مزمورًا صعبًا، انسياب آياته الشعريّة، جعل منه أقدم خيار في صلوات الكنيسة اليوميّة. يتأمّل المرنّم عبره أيّام الخلق في سفر التكوين، بدءًا من انبساط السموات، وخدمة الملائكة من ثمّ، وصولاً إلى الأرض وظواهرها التي لا تُحصى، فالنباتات المختلفة والحيوانات المتنوّعة من الطيور والأيائل والأسود، ومن دون استثناء الإنسان، ومع التّركيز على كَرَم محبّة الله: «كلّها إيَّاك تترجّى لتعطيها طعامها في حينه. وإذا أنت أعطيتها جمَعت. تفتح يدك فيمتلئ الكلّ خيرًا».
فهو يجمع بين اعتبارات النظام الطبيعيّ، وتلك المتعلّقة بالأمور المَعَاشيّة البشريّة، ما يشير إلى «تعاون» بين عمل الله وعمل الإنسان. يصحّ هذا المنظور مع كلّ من الأرض (يُنبت العُشب للبهائم. والخضرة لخدمة البشر. ليُخرج مأكلاً من الأرض. فخمرًا تُفرّح قلب الإنسان. وزيتًا يُشرق به وجهه.
وخُبزًا يُشدّد قلب الإنسان)، والبحر (هذا البحر الكبير الواسع. هناك دبّابات لا عدد لها. حيواناتٌ صغارٌ مع كبار. هناك تجري السفن وهذا التنّين الذي صنعته لكي يسرح فيه). يقابل عمل الإنسان الخاصّ عمل كلّ من المخلوقات الأخرى في الطبيعة، كصيد الأسود والطيور التي تبني أعشاشها.
تجاه النهاية، يتكلّم المزمور على عمل الروح القدس في العالم: «تُرْسِلُ رُوحَكَ فيُخلقون وَتُجَدِّدُ وَجْهَ الأَرْضِ»، عمل الروح هنا يُشَبَّه بخروج الشمس فوق الأفق، كصدر الأمّ المُرضعة الدافئ، والتي تُرضع الخليقة لاستفاقة آهات حياة جديدة! لذلك: «أُسبّح الربّ مدى حياتي وأُرتّل لإلهي ما دمتُ موجودًا… أفرح بالربّ».