كان القدّيس غريغوريوس بالاماس يردّد باستمرار هذه الصّلاة: “يا ربّ أَنِرْ ظلمتي” طلبًا لرحمة الله والاستنارة.
لا يستطيع الإنسان أن يعرف خطاياه ما لم يُنِرِ الرَّبُّ قلبَه. شرط التّوبة معرفة الخطيئة، ليس عقليًّا بل كيانيًّا، كمرض يتآكل الإنسان من الدّاخل، وإدراكُ مخاطِر استفحاله (للمرض) في التكمُّش بمشيئته (للإنسان) إنطلاقًا من الألم الناتج عن كره الخطيئة.
هذا يمنح الإنسان الطاقة الداخليّة في الإرادة الذاتيّة للتعاون مع النّعمة الإلهيّة للنّدامة والرّغبة بالتّحرُّر والشّفاء وتغيير الحياة.
الخطيئة تُظلِم الفكر “وَدُوَارُ الشَّهْوَةِ يُطِيشُ الْعَقْلَ السَّلِيمَ” (سِفر الحكمة 4: 12)، فيسير الإنسان على غير هُدًى، يَخبِطُ خَبْطَ عَشْوَاء في طريق دمار نفسه.
قد يكذب البعض أو الأكثرون على ذواتهم في تشريع نواياهم وأفكارهم وأعمالهم مُلْبِسِينَها ثوب طاعة الكلمة الإلهيّة، في حين تكون هي نتاج مشيئة أنانيَّتهم وكبريائهم، فيدمّرون ذواتهم عوض أن يبنوها ويخربون حياتهم بدلًا من أن يقوّموها.
في زمن الصّوم والإمساك يحاول الإنسان أن يميِّز حركات نفسه في جسده عبر الاِنقطاع عن الزفرَين والصّبر على الجوع والعطش لكي يدرِّب إرادته بتطويع الجسد عبر الطاعة لله من خلال تعليم الكنيسة المقدَّسة وتوصياتها.
هذه الطّاعة تساعد في تحرير الإرادة الذاتيّة من حُكم الأنا ليصير الله أنانا بكلمته السّاكنة فينا والمترجمة نيَّةً وفكرًا وقولًا وفعلًا.
الأهواء المستحكمة بالإنسان تُظلِم جسده وروحه معًا، إذ يصير الجسد خَمولًا في جهادِ صنعِ مشيئة الله، ونشيطًا في الاِستجابة لشهواته، والرّوح تهرب من سماع الكلمة الإلهيّة (ولو كانت تمارسُ الصّلاة) لأنّها تضع حاجزًا من الرفض بين العقل والقلب، إذ تمرُّ الصّلاة في العقل ولا تنزل إلى القلب فتبقى هكذا على مستوى العبور السَّطحيّ الذي ليس هدفه الاستقرار بل تلبية حاجة الخطيئة إلى إسكات الضمير بالحجّة المنطقيّة كذبًا.
“فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَمًا فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ!” (إنجيل متّى 6: 23). كيف يكون هذا؟! …
حين يرجع الإنسان إلى نور الصورة الإلهيّة التي فيه بالطّبيعة فينسبه إلى ذاته مؤلِّهًا نفسه بنفسه مستغنيًا عن الله مصدر النّور.
نور الطبيعة البشريّة فينا يبقى صورة لا تتحقَّق إلّا بالنّعمة الإلهيّة المتنزِّلَة علينا في المسيح وبه.
للإنسان نورانيَّة في ذاته لا تستضيء ما لم تتَّحِد بالنّور غير المخلوق الذي يهبه الرّبّ للتّائبين الطّالبين رحمته من كلِّ قلوبهم وقوّتهم وفكرهم وذهنهم.
التّوبة الرّؤوم هي توبة الله علينا حين يغفر لنا زلّاتنا وسقطاتنا وخياناتنا لمحبّته، وهو “توّاب” على خطايا البشر، لكن يبقى أن نتوب إليه بالإيمان الفاعِل بالطّاعة لمشيئته ليتطهَّر القلب بالعمل (Praxis) والمعاينة (Theoria) فيصير مستنيرًا بالنّور غير المخلوق الذي يتغلغل في كلّ كيانه مشعًّا منه على العالَم. هكذا يتّحد الإنسان بالله فيصير “الله الكلّ في الكلّ” حاضرًا وظاهِرًا، عَبر مجده، في حياة الإنسان بالنّور…
+ أنطونيوس، متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما
عن “الكرمة”، العدد 12، الأحد 24 آذار 2019