طلب أعمى أريحا إلى يسوع رحمة، والرحمة كانت تعني عنده أن يُبصر. هذا يعنى أنّه كان مبصرًا ولم يولد أعمى، قد ذاق جمال البَصَر وأراد استعادته. قيل له إنّ المعلّم الجليليّ الجديد يشفي فاستغاث مرّتين، وكان متيقّنًا أنّ يسوع قادر على شفائه. لكنّ الربّ أراد حوارًا مع الأعمى فسأله: ماذا تريد أن أصنع لك؟ ولمّا طلب الأعمى شفاه الربّ.
كلّ قضيّة للإنسان مع الله قضيّة استرحام ورحمة. ولعلّ أهمّ شيء في الوجود أن نعرف خطيئتنا، أن ندركها وأن نستفظعها ونحسّ بأنّها باعدت بيننا وبين الفادي. القضيّة أن نعرف أنّنا فقراء إليه وأنّ كلّ ما لدينا من مال أو صحّة أو مجد أو جمال أو ما إليه جميعًا باطلة تافهة لولا رحمته، ولولا التفاتات منه تتوالى علينا كلّ يوم. إن عرفنا أنفسنا أنّنا خطأة منسحقين تحت كثرة الشرور التي نرتكب، فإنّما نذهب إليه ونستغفر لعلمنا بأنّه يضمّ بنيه جميعًا إلى صدر الآب الرحب.
«أن أُبصر»، هذا هو المبتغى وهذه هي الضرورة لكلّ إنسان، لأنّ كلاًّ منّا تعميه شروره وأغراضه. كلّ امرئ أعمى. فالشهوة إذا دخلت وتربّعت وتحكّمت فإنّها تعمي البصيرة ويصبح الإنسان بلا رأي صائب وبلا حكم صحيح، ينفعل، يضرب الناس بيديه أو بشفتيه أو بقلب متمرّد.
يحتاج الإنسان إلى أن يُبصر في كلّ يوم وفي كلّ لحظة، لكنّه لا يستطيع أن يرى ما لم يعرف أنّ الله مصدر الروح، وأنّنا بلا ربّنا قد ننظّم بعض الأشياء، بعض أمور عائلاتنا وأرزاقنا، لكنّنا لسنا بشيء ما لم نصل إلى القناعة بأنّ المسيح هو حياتنا وبأنّ كلّ الأمور الباقية إنّما تزاد لنا، وقد تأتي وقد تذهب، وقد نكون في سلامة أو قد نكون في صحّة أو في مرض، في غنى أو في فقر، كلّ هذه الأشياء متساوية.
الأمر الوحيد الجليل، الطاهر، الدائم، الصامد هو أن يكون المسيح رفيق حياتنا في كلّ شيء وملهمها ومنعشها. ولهذا يجب أن نستغيث قائلين: يا ربّ نريد أن نبصر، فأذهِب عنّا هذه الشهوات السامّة، وأعطنا روح بساطة وروح تواضع أمامك وأمام الناس حتّى لا نستكبر. وإذ ذاك يجيب الربّ: يا ابني إيمانك خلّصك فأبصر.
إيمانك يهديك إلى أنّ شهواتك ضارّة، وهو الذي يعلّمك المنازعات والمقاتلة إنّما هي أمور تافهة والإنسان الذي أمامك هو خير من كلّ مصالحك.
إيمانك يعلّمك، فالإيمان ليس كما يتصوّر الكثيرون أن نصدّق عجيبة تحدث هنا ومعجزة تحصل هناك. ليس الإيمان أن نقتنع بكلّ ما يقوله لنا عامّة الناس. ليس الإيمان أمرًا يتمّ في العقل، في الذهن. (طبعًا من السهل جدًّا أن نقول إنّ الله موجود، فالطبيعة كلّها تشير إليه. ولكنّ الله إذا كان لا يحرّكك ولا ينهيك ولا ينعشك ولا يجعلك عاملاً رسولاً في سبيله مقدّسًا، فكأنّه غير موجود). الموجود هو من أتعاطى وإيّاه بالحبّ. الإيمان ليس تصديقًا، الإيمان ثقة، ثقة بالله، وأن نسلّم النفس إليه. الإيمان يقين. الإيمان ليس الظنّ أو التخمين لكنّه رؤية.
الأعمى بعد أن أبصرَ عظُم إيمانه لأنّه لمس قوّة يسوع. لا يستطيع أحد أن يقنعه بأنّ يسوع غير قويّ، أو غير شافٍ أو غير فادٍ، ولكنّه أخذ بصرًا وصار يعلم أنّ المسيح كلّ شيء. المؤمن ليس مَن يحسب أنّ
هناك آخرة قد تكون، لا. القضيّة ليست ظنًّا، إنّها علم. الإيمان علم بأنّ الله قويّ وبأنّه محبّ وبأنّه الرحيم. الإيمان رؤية بأنّ المسيح معنا الآن وأنّه سيلازمنا غدًا، وأنّنا نناجيه على الرجاء.
إن لم يكن عندنا هذا الإيمان سنبقى في التخمين وفي الظنّ وفي تصديق ما يُقال هنا وهناك. إن لم يكن عندنا هذا الإيمان الذي يجعلنا نحسّ ونلمس ونتيقّن أنّ المسيح أقوى من الموت. إذا توصّلنا إلى هذه القناعة بأنّنا إن فقدنا كلّ شيء وبقينا وحدنا وتيقّنّا أنّ المسيح كافٍ لنا عندئذ نكون من المؤمنين ونكون من المبصرين.
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
الرسالة: أفسس ٥: ٨-١٩
يا إخوة اسلكوا كأولاد النور (فإنّ ثمر الروح هو في كلّ صلاح وبرّ وحقّ) مختبرين ما هو مرْضيّ لدى الربّ، ولا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة بل بالحريّ وبّخوا عليها. فإنّ الأعمال التي يعملونها سرًّا يقبح ذكرها أيضًا. لكنَّ كلّ ما يوبَّخ عليه يُعلن بالنور. فإنّ كلّ ما يُعلن هو نور. ولذلك يقول استيقظ أيّها النائم وقم من بين الأموات فيضيءَ لك المسيح. فانظروا إذًا أن تسلكوا بحذرٍ لا كجهلاء بل كحكماء مفتدين الوقت فإنّ الأيّام شريرة. فلذلك لا تكونوا أغبياء بل افهموا ما مشيئة الربّ ولا تسكروا بالخمر التي فيها الدعارة، بل امتلئوا بالروح مكلّمين بعضكم بعضًا بمزامير وتسابيح وأغانٍ روحيّة مرنّمين ومرتّلين في قلوبكم للربّ.
الإنجيل: لوقا ١٨: ٣٥-٤٣
في ذلك الزمان فيما يسوع بالقرب من أريحا كان أعمى جالسًا على الطريق يستعطي. فلمّا سمع الجمعَ مجتازًا سأل: ما هذا؟ فأُخبر بأنّ يسوع الناصريّ عابرٌ. فصرخ قائلاً: يا يسوع ابن داود ارحمني. فزجره المتقدّمون ليسكت فازداد صراخًا: يا ابن داود ارحمني. فوقف يسوع وأمر بأن يُقدّم إليه. فلمّا قرُب سأله: ماذا تريد أن أصنع لك؟ فقال: يا ربّ أن أُبصر. فقال له يسوع: أبصر، إيمانك قد خلّصك. وفي الحال أبصر وتبعه وهو يمجّد الله. وجميع الشعب إذ رأوا سبّحوا الله.