قدّيسو اليوم هم أغاثونيكوس ورفقته (القرن ٣+ م.) هؤلاء قضوا أيّام اضطهاد الأمبراطور الرومانيّ مكسيميانوس على يد وكيله أفتولميوس في نيقوميذية. التهمةُ الأساسيّة كانت، المساهمة في هداية بعض الوثنيّين إلى المسيحيّة، وأبرزهم الشخصيّة الأولى في المدينة على يد الحكيم أغاثونيكوس الذي بعدما مَثَلَ في بيزنطية أمام الأمبراطور صدر الحكم بقطع رأسه. أمّا رفاقه فسُجنوا وعُذّبوا ثمّ اُسلموا للموت.
إثر هذه الحادثة، من الجيّد أن يسأل المسيحيّ نفسه، ما الذي يجعلني أثبت في إيماني بالمسيح وسط هذا العالم؟ فالتاريخ لطالما كان مليئًا بظروفٍ سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة، غالبًا ما تجعل الإنسان تائهًا وسط ضيقات وصعوبات جمّة ينشغل بها عن طلب وجه المسيح.
اللافت في قصّة قدّيسينا أنّهم استطاعوا لفت نظر الناس في محيطهم وبيئتهم، وهم يعيشون في جوّ وثنيّ معرّضين للاضطهاد اليوميّ. وأيّ فضحٍ لإيمانهم سيهدّد لا فقط أعمالهم ومدخل رزقهم ولقمة عيشهم لا بل وروحهم أيضًا. أن يلفت المؤمن نظر الناس ويجذبهم إلى الإيمان المسيحيّ يعني أنّ المسيح راسخ عنده وهو محور حياة هذا الشخص فعلًا لا قولًا، في الضيق والشدّة كما في أوقات الرغد. لا أن يمارس إيمانه كواجب دينيّ يشفي سيكولوجيّة الإنسان بعلاقته بإله، أيّ إله.
لفت نظر الناس بسبب مسيحنا يعني أنّنا نورٌ، أنّنا ملحٌ، أنّنا أبناءٌ، واثقون بأنّ إلهنا حيٌّ بذاته مُحيٍ للخليقة. تلك الـتي متى نعاين المصائب فيها وشدّة قسوتها علينا نصير إلى امتحان الحياة وهو أن نحيا بالله أو بأنفسنا. هذا هو الامتحان المحتّم لكلّ مخلوقٍ لحظةَ يدركُ الخير والشرّ بآنٍ مثل آدم. فإمّا أنّ نبدأ مباشرة بلوم الله ونبذه، فيغلّف إيماننا الجفاء ونكران حقيقة حبّه لنا، فنتيه. أو نثبت بالحبّ كالملائكة ممجّدين الله على كلّ حالٍ. من هنا علينا أن نحكّم أنفسنا لهذا الحبّ وميزان عدالته. فالحبّ إمّا أن يكون أو لا يكون. الفاتر يتقيّؤه الله لا محالة. الحبّ لا تتغيّر أحواله بين الفقر والغنى. الحبّ حياة ٌكالنَّفَس يستمرّ مهما كانت حالة الجسد البيولوجيّة.
كيف يحفظ المسيحيّ نور المسيح في قلبه والعالم؟ يفعل ذلك إن صار حيًّا بعشق الله. والعاشق يطلب معشوقه على الدوام. اطلبوا وجه الله بإلحاحٍ كلّ يومٍ واستدرّوا عطفه. هكذا بكلّ بساطة وليكن كلّ شيء آخر مفصولًا عن هذا الفعل القلبيّ اليوميّ. بذلك لا يسكن الهمّ قلوبنا ولا يفترس الشرير أفكارنا.
الناس عطشى إلى الحبّ، تتوق إلى الشعور بأمان واحتضان من يحبّها. إنّ أظهرنا حبّنا الروحيّ هذا للمخلّص نكون صيّاديّ الناس على حسب دعوة المسيح لتلاميذه. هكذا نحفظ نور المسيح وقّادًا وهّاجًا.
إلّا أنّه من شروط حفظ القنديل مضيئًا للجميع علينا بصيانته. والصيانة هنا هي جدّيّة عيش الحياة الروحيّة بالتوبة، إذ لا انفصام في حياتنا. لا وجود لحياتين؛ واحدة في المسيح وأخرى حسب شروط هذا العالم الساقط بالأهواء والملذّات والخطايا المميتة للروح.
كلّ ما نحن فيه من نعمة هو من مفاعيل قيامة الربّ يسوع التي بها تحرّرنا من نير الخطيئة. خلقنا الله أحرارًا وأرادنا أن نأتي إلى النور حيث الحبّ الإلهيّ لا ينام. لا نجعلنَّ أيّ سُلطةٍ علينا بسبب سوء استخدامنا رغباتنا وإرادتنا وانشغالنا بهموم العالم. فالحرُّ وحده يمشي في النور ويهدي آخرين، ولنا الشهداء والقديسون أمثلة حيّة بالمسيح مدى الدهور. وهذه وصيّة الشهيد أغاثونيكوس لنا قبل ذهابه للموت : «إنّ لكم يسوع والقدّيسين يصلّون لكم من قلبٍ نقيّ، فاسلكوا في مخافة الله والحقّ بقيّة أيّام حياتكم».
Raiati Archives