يتهيَأ لنا أنّ هذه العجيبة ليست ذات أهمّيّة، وهي حادثة عرضيّة مهّدت لجدال حول مفهوم راحة السبت. لكن، إن اطّلعنا على واقع المرأة الاجتماعيّ في زمن يسوع، والقيود الاجتماعيّة والدينيّة التي فُرضت عليها، ندرك أنّ إثارة موضوع السبت إنّما هو لإلقاء الضوء على المدلولات الحقيقيّة لهذا الشفاء وأبعاد التغيير الجذريّ الذي أسّس له.
عُدّت المرأة من ممتلكات الرجل، ليس لها حصّة من الإرث، لا يحقّ لها الادّعاء أو الشهادة في المحكمة، لا يُسمح لها بالتعلّم وبالأخصّ دراسة الشريعة والأسفار المقدّسة (ورد في أقوال أحد الربّانيّين «مَن يعلّم ابنته الشريعة يعلّمها البغاء»). لا يُسمح لها مطلقًا بأن تصلّي في العلن، أو في مكان عامّ أو بحضور ذكور، وكان المجمع محظورًا عليها. أمّا لاحقًا فسُمح لها بأن تجلس خلف جدار فاصل يحجب الرؤية ويتيح السمع. اجترح الربّ يسوع عجيبة الشفاء هذه في ظلّ هذا الواقع الأليم، ليعلن انعتاق المرأة من كلّ القيود التي جعلتها تحت نير العبوديّة.
لا شكّ في أن يسوع، عند خروجه من المجمع، رأى المرأة وهي تخرج من الباب الجانبيّ المخصّص لجناح النساء، لكنّ الإنجيليّ لوقا عند سرد الحادثة، تعمّد الإيحاء بأنّها في الداخل ضمن الحضور مع الذكور، لأنّه كان يؤسّس عبر هذه الحادثة، كما يسوع، إلى واقع جديد يتجلّى بالمشاركة الكاملة والمتكافئة بين الرجل والمرأة ضمن الجماعة الكنسيّة الواحدة.
ذكر المدّة الزمنيّة للمرض مرّتين في النصّ، لا يقتصر على التشديد على طول أمد العاهة، بمقدار ما يدلّ على واحد من أهمّ الأحداث في تاريخ الشعب اليهوديّ، وهو دعوة الله لإبراهيم. للأرقام في الأسفار المقدّسة دلالات، إلى جانب القيمة التي تعبّر عنها. فالثماني عشرة سنة، تدلّ على الثمانية عشر قرنًا التي تفصل بين زمن يسوع، والزمن الذي دعا فيه الله إبراهيم وحرّره من العبادة الوثنيّة. أمّا الانحناء فهو العلامة المنظورة للخضوع أي دلالة العبوديّة، ولا تمتلك بذاتها الوسائل أو القدرات للتحرّر منها إذ «لا تستطيع أن تنتصب البتّة». في الظاهر مرض، ولكن في العمق حالة مرضيّة اجتماعيّة جعلت المرأة اليهوديّة بعامّة بمستوى العبد مقابل الرجل.
خالف الربّ يسوع الأعراف والتقاليد، وناداها علنًا وضع يديه عليها. هذا تصرّف ينمّ عن استفزاز لقيم تلك الفترة. وقال لها: «إنّك مطلقة من ضعفك». أي أنّي الآن أحرّرك، أنا أقطّع قيودك وأُعيد لك كرامتك التي سُلبت منك. أمّا البرهان على حقيقة ما قام به يسوع، أي تحريرها، فهو في وقوفها شامخة أمام الجميع ورفعها صلاة تمجيد على مسامع جميع الحاضرين.
اغتاظ رئيس المجمع لأنّه أدرك أبعاد ما قام به يسوع، ليس فقط على مستوى المرض الفعليّ، بل الأهمّ على مستوى الإصلاح الاجتماعيّ. تذرّع براحة السبت لكنّه جهل أنّه مدّ يسوع بالحجّة الكتابيّة المناسبة لبرهان صحّة ما قام به للتوّ. ماذا يمثّل السبت؟ ارتبطت شريعة راحة السبت بحدثين: الخلق والخروج. «في ستـّة أيّام صنع الربّ السمـاء والأرض والبحر وكلّ ما فيها، واستراح في اليوم السابع لذلك بارك الربّ يوم السبت وقدّسه» (خروج ٢٠: ١١). لكنّ ذروة هذا الخلق وخاتمته فكانت في اليوم السادس حين خلق الله الإنسان، خلق الذكر والأنثى المتساويين والمتكافئين. فالسبت إذًا، يعكس من زاوية الخلق مشهد المساواة الكاملة المتكافئة بين الذكر والأنثى. أمّا من زاوية الخروج فتعكس الحرّيّة: «اذكر أنّك
كنت عبدًا في أرض مصر فأخرجك الربّ إلهك من هناك… لأجل ذلك أوصاك الربّ إلهك بأن تحفظ يوم السبت» (تثنية ٥: ١٥). بكلام آخر السبت هو عيد الحرّيّة والمساواة.
تتّضح هذه الفكرة أكثر من الفريضة العمليّة التي تحدّد نشاط يوم السبت، «لا تعمل فيه عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وثورك وحمارك وكلّ بهائمك ونزيلك الذي في أبوابك لكي يستريح عبدك وأمتك مثلك» (تثنية ٥: ١٤). هل يعقل أن يكون العبد مثل السيّد؟ نعم، بحسب الشريعة، في السبت، أو بالحريّ في يوم الربّ، اليوم الذي يمثل فيه الإنسان أمام الربّ، يستقيم المنحنون وتتكسّر القيود وتنتفي الأوامر ويتساوى الجميع. هو بالضرورة اليوم المثاليّ لتحرير هذه المرأة وكلّ امرأة كانت منذ دعوة الله لإبراهيم، من ثمانية عشر قرنًا، تحت عبوديّة ناتجة من فكر شيطانيّ مخالف لفكر الله، ينسلّ انسلال الأفعى التي أغوت الإنسان وطرحته خارج الفردوس. هذا فحوى سؤال يسوع لرئيس المجمع: أما كان ينبغي أن تُطْلَـق من هذا الرباط يوم السبت؟ أمّا أن يطلق عليها يسوع لقب «ابنة إبراهيم» فليس عن عبث.
هي المرّة الأولى والوحيدة في الكتاب المقدّس بعهديه، التي يُطلق فيها لقب «ابن إبراهيم» على امرأة. هذا كان لقبًا ذكريًّا بامتياز. هذا يعني أنّ يسوع لا يقوم فقط بتحرير المرأة من قيود اجتماعيّة بالية، بل أيضًا يعيد إليها الحقّ الكامل بالحصول على الخلاص ومفاعيل وعد الله لإبراهيم، بموازاة كاملة مع الرجل.
كان يسوع سبّاقًا في كثير من المجالات، وفي مقدّمتها الإصلاح الاجتماعيّ، وتبرهن لنا هذه الحادثة أنّه كان الأوّل في مجال تحرير المرأة. ما زال موضوع تحرير المرأة أمرًا بالغ الحساسيّة في أيّامنا اليوم وتتضافر جهود كثيرة لمعالجته، لكنّ الدواء الشافي والجواب الصريح، يكمن في أنوار هذا النصّ الإنجيليّ. لن نتذوّق فرح الحرّيّة ما لم يحرّرنا الربّ يسوع بيديه الشافيتين.