...

المتوحّدون

مع انتهاء عصور الاضطهادات الكبرى التي مارستها الإمبراطوريّة الرومانيّة ضدّ المسيحيّين، تنــامى عدد الرهبان المتوحّدين في القسم الشرقيّ من الإمبراطوريّة، في مصر منذ مطلع القرن الرابع، مع ظهور القدّيس أنطونيوس الكبير، وفي القسم الغربيّ أيضًا، في غاليا (فرنسا) في نهاية القرن ذاته، مع ظهور القدّيس مرتينُس أسقف تور. وكان القدّيس أنطونيوس “مثال” المتوحّدين، وما زال كذلك إلى يومنا الحاضر، كما وصفه القدّيس أثناسيوس الإسكندريّ في كتابه الشهير “حياة القدّيس أنطونيوس” (منشورات تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة)، قد أسهم إسهامًا كبيرًا في انتشار الحياة التوحّديّة. 

المتوحّد هو الراهب الذي يعيش في العزلة النسبيّة، لأنّ أشخاصًا آخرين كانوا يأتون إليه ويقيمون في جواره ويلتمسون نصائحه وإرشاداته. وبالإضافة إلى ذلك، يعيش المتوحّد عيشة فقيرة ومتقشّفة جدًّا، ويعمل بيديه ليكسب رزقه. لم يتجمّعوا بادئ الأمر في “دير”، بل في “مستعمرة نسّاك”، منعزلين ومرتبطين في وقت واحد. ومع تقدّم الزمن، وتزايد أعداد المشغوفين بالحياة التوحّديّة، تمّ بناء الأديار لإيوائهم في حياة جماعيّة مكرّسة للعبادة في مختلف أركانها من صلاة وصوم ومطالعة الكتاب المقدّس… نشأت الأديار التوحّديّة، إذًا، لأنّ الأمر تطلّب أن يتجمّع المنعزلين داخل حرم واحد، وأن يخضعوا لرئاسة واحد منهم. 

المتوحّد، إذًا، هو الراهب الذي تحرّر من كلّ اهتمام مادّيّ، فأصبح في إمكانه أن يتكرّس لموضوع تفكيره الوحيد، وهو الله. لذلك دعي المتوحّد بـ”رجل الله”. وليست حياته مقدّمة بكاملها وحسب، بل عنده يقين حيّ بتلك التقدمة. هو الذي يصلي بلا انقطاع، ويوجّه أفكاره كلّها إلى إلهه، وبخاصّة بواسطة الكتاب المقدّس أو بتأمّلات شخصيّة، أو حتّى في “الصمت والهدوء”. هو الذي يعيش كلّيًّا لله ومع الله، وله عدوّ واحد هو الشرّ المتجسّد في شخص هو الشيطان. هو ذلك الراهب الذي يكون تبتّله وانقطاعه عن العالم نتيجة الحبّ المطلق الذي يكنّه لله، وليس البتّة نتيجة لاحتقاره الأمور الجسديّة أو نتيجة ردّة فعل على عادات عصره. 

يتّفق المؤرّخون الكنسيّون على القول بأنّ أنطونيوس الكبير هو الذي ابتكر الحياة التوحّديّة، ولذلك سمّي بـ”أبي المتوحّدين”. غير أنّ براعم الحياة التوحّديــّة تعود إلى تاريخ أقدم، إلى العصر الأوّل لنشأة الكنيسة. ففي وقت مبكر من حياة الكنيسة، عزم رجال ونساء يعشقون الله على تكريس حياتهم له. وكما فعل المتوحّدون في وقت لاحق، كانوا يسعون إلى تحويل حياتهم اليوميّة إلى صلاة دائمة، وكانوا لا يتزوّجون، لكي يتكرّسوا كلّيًّا لله. ومع ذلك كانوا يختلفون عن المتوحّدين، لأنّهم كانوا لا يبتعدون عن المدينة التي كانوا يقيمون فيها. وكانوا يختلطون بالناس ويشاركون في الحياة العاديّة. لكنّ اتّحادهم بالله كان عميقًا وأصيلاً، لذلك يسعنا أن نقول إنّهم قد مهّدوا لولادة هذا الحركة التوحّديّة المباركة. 

ويسعنا أيضًا أن نعتبر الشهداء إبّان القرون الثلاثة الأولى كانوا من روّاد الحياة التوحّديّة. فالشهيد كان يترك، بكامل حرّيّته وإرادته، ذويه وزوجته (وزوجها في حالة الشهيدة) وأولاده، ويكفّ عن التفكير بمستقبله، وكانت الأمّ تتخلّى عن هبة الحياة. كان الشهداء، إذًا، يسلّمون ذواتهم إلى الله بتكريس دمهم المسفوك تكريسًا كاملاً. وهذه هي حال المقبل إلى انتهاج الحياة التوحّديّة. وفيما كانت الشهادة مثال الحياة المسيحيّة في زمن الاضطهادات، أصبحت الحياة التوحّديّة مثال الحياة المسيحيّة في زمن السلم. 

في البدء، نادرًا ما كان الراهب الناسك كاهنًا أو أسقفًا. وعلى الرغم من رفض بعض المتوحّدين أن يتولّوا الأسقفيّة، فقد ظهر منهم أساقفة عظماء أحبّوا شعبهم، وأحبّهم شعبهم. ولكنّهم كانوا يحنّون إلى العزلة والصلاة الدائمة، وتلك كانت حالة القدّيس باسيليوس والقدّيس مرتينُسوالمغبوط أغسطينُس أسقف هيبّون. يروى عن القدّيس مرتينُس أنّه حين تولّى الأسقفيّة على مدينة تور، “سكن لبعض الوقت في قلاّية متّصلة بالكنيسة. ثمّ بات لا يتحمّل أن يزعجه زائروه، فأقام لنفسه محبسة تقع على مسافة ثلاثة كيلومترات تقريبًا خارج أسوار المدينة. وكانت تلك الخلوة منعزلة حتّى أنّه لم يكن ينقصها شيء من عزلة الصحراء”. 

من مصر انتشرت الحركة التوحّديّة انتشارًا سريعًا. فأقام القدّيس هيلاريون، تلميذ أنطونيوس، في مايوما الواقعة حاليًّا في شريط غزّة الساحليّ، ثمّ تمّ تأسيس أديار قرب الأماكن المقدّسة في فلسطين وسيناء. 

وفي سورية تجمّع النسّاك حول خلقيس ونافسوا نسّاك مصر. ولكنّ هذه الحركة خطت خطى أكبر، وعمل على نشرها أشخاص بارزون. فحوالى عام ٣٥٧، قام القدّيس باسيليوس الكبير بجولة في أنحاء المشرق حيث احتكّ بالمتوحّدين وزار أديارهم. وفور عودته إلى آسية الصغرى أسّس ديرًا للرجال في ملك يخصّ عائلته. واستوحى قانون القدّيس باخوميوس الرهبانيّ، فأقام توازنًا بين ترويض النفس والاعتدال، طبع الحياة التوحّديّة في الكنيسة الأرثوذكسيّة. 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المتوحّدون