في البدء كان روح الله يرفّ على مياه الخليقة ويحضنها. وهو ما يزال يحضنها اليوم حتّى تنمو إلى قصد الله لها. وفي العنصرة توزّعت ألسنة النار على التلاميذ حتّى يجعلوا من الأرض امتدادًا لجسد المسيح.
إذا كانت الحياة المسيحيّة كما يعرّفها الرسول بولس حياة في الروح أو انقيادًا له (غلاطية ٥: ٢٥)، فهي ليست حياة موازية للحياة اليوميّة أو على هامشها، بل هي كلّ الحياة إذ يخترقها نور الروح فتتجلّى وتتجدّد من داخلها في كلّ جوانبها. كان القدّيس سلوان يطلب إلى الربّ «أن يعطي لكلّ الشعوب معرفة محبّته وعذوبة روحه القدّوس حتّى ينسى الناس الآلام ويتعلّقوا به بحبّ». فاكتشاف هذا الحبّ هو نواة الحياة المسيحيّة والقوّة الأفعل لكشف المحبّة الإلهيّة في العالم. يصبح الروح القدس لمن يتلقّاه «حوضًا من نور يجدّد كلّ من يدخل إليه… فكونه النور الذي لا يغرب يحوّل كلّ من يسكن فيه إلى نور» (القدّيس سمعان اللاهوتيّ الحديث). نتيجة هذا التطابق أنّ المسيحيّ يشهد في العالم لملكوت ابن الله كما الروح القدس يشهد له على ما قال يسوع لتلاميذه: «ومتى جاء المعزّي… فهو يشهد لي. وتشهدون أنتم أيضًا لأنّكم معي منذ الابتداء» (يوحنّا ١٥: ٢٦-٢٧).
بإدخال الروح القدس النعمة الإلهيّة إلى عمق الخليقة، هو ينشئ شوقًا إلى الله وإلى فعله في الناس والكون. وبمقدار هذا الشوق إلى الله يرى الإنسان الله في إخوته البشر ويراهم في الله. هذا التحسّس لحضرة الله في كلّ أوان ومكان يطلق في القلب صلاة مستمرّة وفي العالم فعلًا محوّلًا. وقد يكشف هذا الشوق ذاته كمسؤوليّة تجاه الله والبشر، كفعل عبادة أو رهبة مقدّسة أو وعي حادّ لنقص المحبّة أو التزامًا حارًا لمشيئة الله. فالإنسان مهيّأ منذ الخلق لسكنى الروح فيه. يعيد الروح القدس إلى النفس قدرتها على التواصل مع الأشخاص أي يرمّم فيها حالتها الطبيعيّة. لا يُعطى للإنسان أن يرى أخاه سرًّا مبهرًا أو وجهًا حسنًا إلّا بكشف من الروح. فإذا كانت «التوبة الأولى» على ما يشرح الأب ليف جيلله هي اللقاء الأوّل والواعي مع مخلّصها كمعلّم وصديق، و«التوبة الثانية» هي المواجهة مع سرّ الصليب والقيامة في تكريس جذريّ للحياة في المسيح وطاعة للمحبّة الإلهيّة، فزمن التوبة الثالث هو عنصرة نار الروح القدس والدخول في حياة وحدة محوِّلة مع الله.
كيف نتذكّر ومضات النور في كثافة الظلام؟ كيف نتمسّك بخيوط الضوء ولا نخون أنين المتألّمين؟ هذا إبداع الروح في كلّ محبّ أفرغ نفسه ليصغي إلى صوت الله في كلّ إنسان. يحضن الروح الإبداعات البشريّة والاكتشافات العلميّة والتحوّلات الاجتماعيّة نحو الخير والعدل وانكشاف كلّ جمال وكلّ ما يحفظ سلامة الإنسان.
الروح مفجّر النبوءات في الكنيسة وخارجها أيضًا. ويرسل صوته ناطقًا بحناجر الأطفال والرضّع في الكنيسة، أي الإخوة الذين يعتبرهم البعض صغارًا. غير أنّ صراخ الأنبياء يبقى غير فعّال إن لم يقترن بحلول أو اقتراحات حلول ومرافقة رحيمة لإمكانات التحوّل. فكما تحضن الدجاجة فراخها هكذا يحضن الروح كلّ حبّات الخردل الصغيرة التي بذرها الفلاح الإلهيّ في العالم. وفي حنان أموميّ يعطي الروح
لكلّ بذرة أن تغيّر هيئة الأرض التي زرعت فيها، أو بالحريّ أن تفجّر فيها قوّة التجلّي. وفي طول أناة لا توصف يتفشّى الملكوت حتّى تتآوى فيه كلّ مخلوقات الأرض.
Raiati Archives