إذ نحن مقبلون إلى انتصاف مسيرة الصوم تضعُ لنا الكنيسةُ الصليبَ أمامَنا لتذكّرَنا بأنّه محورُ خلاصنا، ولتحثَّنا على أن نلتزمَ حمْلَ صليبِنا كلّ يوم. الصليب حركةُ فداءٍ إلهيّ – تجاه ضعفنا ووهننا- تكشفُ لنا محبّةَ الله الباذلة، كما تظهر لنا واقعَنا المريض المليء بالتناقضات والظلم والإدانة والحقد والكراهية. فالربّ يسوع المسيح بارتفاعه على الصليب لم يرفع خطايا العالم معه فقط، إنّما رفع أيضًا كلّ هذا الواقع المرير وافتداه بدمه. بهذا العمل الخلاصيّ أعطانا الربّ يسوع إمكانيّة شفاء نفوسنا ورسم لنا طريق العلاج.
ما هو جواب الإنسان عن هذه المبادرة الإلهيّة؟
الجواب عن هذا السؤال ينطلق من قاعدة أساسيّة، وهي أنّ إرادة الإنسان حرّة في أن تقبل هذه المبادرة أو أن ترفضَها، رغم حاجة الإنسان الماسّة إلى التجاوب مع محبّة الله تجاهه لينال الخلاص، «لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ جِئْتُ وَكَلَّمْتُهُمْ، لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيئةٌ، وَأَمَّا الآنَ فَلَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي خَطِيئتِهِم» (يوحنّا ١٥: ٢٢). فعناية الله بالإنسان لم تنفِ قطّ إرادة الأخير في أن يقبل محبّة الله أو يرفضها، بل أعطته إمكانيّة الخلاص إذا ما كان هذا خياره. فإذا قبلَتْ إرادةُ الإنسان الشخصيّة التفاعلَ مع مبادرة الله تجاهها فهي إنّما تقبلُ وتلتزمُ حملَ صليبها لتتبعَ يسوع. من هنا يأتي التزام الإنسان الشخصيّ بحمل الصليب كجواب منه عن محبّة الله.
كيف يتحقّق فعليًّا هذا الالتزام بحمل الصليب في حياتنا اليوم؟
تفتحُ الظروفُ الصعبة التي نعيشها اليومَ في بلدنا والأزماتُ المتراكمةُ التي تحدقُ بنا المجالَ، أمامنا كمؤمنين، لأن نشهدَ أمام العالم لصليب يسوع كخشبة الخلاص الوحيدة والفعّالة على ضوء خبرة قيامة المسيح. هذا يصير ممكنًا وحقيقيًّا ومحسوسًا حينما يلمسُ العالمُ خبرةَ القيامة التي نعيشها شخصيًّا في حياتنا، والتي تعطينا الدافعَ والقوةَ لأن نلتزم حملَ صليبنا دائمًا كجوابٍ منّا عن مبادرة الله نحونا، فنحن نلتزم حمل الصليب لأنّنا اختبرنا القيامة.
المحطّة الأساسيّة في مسيرة عيشنا هذه الخبرة المزدوجة، أي خبرة الصليب-القيامة، تبدأ في التزامنا الروحيّ واستعدادنا لمواجهة أشكال الألم والضيقات كافّة، من دون تذمّر على صورة المعلّم يسوع، «لأنّنا إذا شاركناه في آلامه فنشاركه في مجده أيضًا» (رومية ١٧:٨). إذًا، نلتزم اليوم حملَ صليبِ أتعابِنا اليوميّة لنشارك المسيح في آلامه، عبر احتمالنا المشقّات والصبر في أزمنة الضيقات والأزمات المحدقة بنا. لكنّ هذا يسبقه أن نزهد بأنفسنا عن العالم وملذّاته. فإن كانت حياتُنا الأرضيّة وصحّتُنا الجسديّة وموائدُنا الغنيّة وأموالُنا وأرزاقُنا وحياتُنا المترفة هي أولويّاتنا، فلن نصبر ولن نتحمّل ألَمَ فقدانها، سنتذمّر ونغضب ونلقي اللوم على الله والآخرين، حتّى إنّنا مستعدّون لأن نؤذي الآخرين لتعويضها، أي أنّنا سنتفادى حمل صليبنا بأيّة وسيلة. أمّا إن كان المسيح أولويّتنا، فمهما تأزّمَتْ أوضاعُنا الحياتيّة سنعتبرها صليبًا نلتزم حمله لنشارك المسيح في آلامه ومجده، ولنشارك الفقراء والمتألّمين والمظلومين والمرضى في تحمّل أتعابهم وأوجاعهم، ولبلسمة جراحهم ومساعدتهم على حمل صليبهم أي صليب الفقر والعوز والجوع والظلم والمرض، فتتحوّل آلام حياتهم إلى عذوبة ومرارة عيشهم إلى حلاوة محبّة المسيح لهم، التي يلمسونها عبر محبّتنا، فنكون تاليًا قد أحيينا في نفوس هؤلاء الصغار، من ماهى يسوع نفسه بهم، خبرة القيامة.
هكذا نتفاعل إذًا مع مبادرة الله نحونا عبر التزامنا الشخصيّ بحمل صليبنا، كما عبر التزامنا مساعدة الآخرين على تحمّل صليبهم، فنصير نحن وإيّاهم إلى شركةٍ حقيقيّةٍ مع صليب المسيح نصل بواسطتها إلى شفاء نفوسنا.
Raiati Archives