عندما تخاطب رجلًا يناهز الماية من العمر، وتجده يستشهد دومًا بما علّمته إيّاه أمّه، تعرف كم هي عظيمة الأمّ التي تحفر كلماتها وتعاليمها في عقول الأبناء وقلوبهم طوال حياتهم. هي تحملهم في أحشائها وفي كيانها وهم يحملونها في عقولهم وفي قلوبهم، هي تعطيهم الحياة وهم يعطونها الأمومة. الأمومة التي تبدأ من اللحظات الأولى للحمل، إذ توقن الأمّ أنّ جسدها أصبح مسكنًا لهذا الكائن اللامنظور الضعيف الذي ينمو في داخلها، إلى أن يُبصر النور وتضمّه للمرة الأولى الى قلبها، تضمّه بكلّ ما أوتيت من محبّة. تلك المحبّة التي «تَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ… وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ». (١كورنثوس ١٣: ٧)
محبّة الأمّ ليست سوى انعكاس لمحبّة الإله الذي بذل نفسه حتّى الموت من أجلنا. لذلك الأمومة قادرة على أن تعلّمنا أفضل من أيّ كتاب ومن أيّ وعظ عِظَم محبّة الله لنا، وحضوره الدائم في حياتنا، حتّى لو أُعميت عيوننا عن رؤيته أحيانًا. فالأمّ تُدرك أنّ هذا البحر الهائل من العواطف والتفاعل، الواعي واللاواعي، الذي تحمله لأبنائها ليس سوى صورة مصغّرة عمّا يحمله الله لنا. من هنا ينشأ هذا الترابط العفويّ والعميق بين الله والأمّ، ينشأ من تشابه القلوب «بالوداعة والتواضع»، (متّى ١١: ٢٩) اللذان جعلا مريم تهتف «ها أنا أَمَة للربّ»، جعلا منها أمًّا لابن الله وأمًّا لنا جميعًا. فكانت مِثال «الأمّ» «الأمَة» أي «الأمّ – الخادمة» لله ولجميع البشر، فكان أوّل ما قامت به، بعد تلقّي البشارة، هو زيارتها لنسيبتها إليصابات وتحمّل مشقّات السفر لتقديم المحبّة والخدمة لها.
وعلى مثال العذراء مريم كلّ «أمّ» «أَمَة للربّ» تشعر، بفعل المحبّة والوداعة والتواضع، بأنّها «أمّ» و«أَمَة» لعائلتها أوّلًا ولجميع من يضعهم الله في طريقها ثانيًا. وما الصبر والاحتمال اللذان تتمتّع بهما الأمّ إلّا ثمار هذه المحبّة وهذه الوداعة وهذا التواضع، لأنّ الصبر والاحتمال هما عدوّا «الأنا»، فكلّما عظمت «الأنا» في داخلنا تقلّصت قدرتنا على الصبر والاحتمال، وكلّما زاد تواضعنا وانسحاقنا وخروجنا من ذواتنا باتّجاه الآخر نما الصبر فينا وأزهر. فالأمومة هي بالدرجة الأولى تمرّس على تحطيم «الأنا». ومن هنا، كلّما أفرغت الأمّ ذاتها، وامتلأت من حضور الله في كلّ تفاصيل حياتها، تجلّت قدرتها على مواجهة الصعوبات والضغوطات، التي قد تتعرّض لها، بتسليم كلّيّ لمشيئة الله والثقة بأنّه الفاعل الأوّل في حياتها وحياة عائلتها ومَن حولها. هذا التسليم هو الذي يمنحها السلام الداخليّ، موقنة بأنّ الأمور هي بين يدي الله الكلّيّ القدرة القائل «اطلبوا أوّلًا ملكوت الله وبرّه، وهذه كلّها (أي أمور الحياة اليوميّة) تُزاد لكم» (متّى ٦ : ٣٣).
فهي عند كلّ امتحان وعند كلّ صعوبة تواجهها تعود لتبحث داخل قلبها، تعود لتستلهم روح الله الساكن فيها، القدرة على ابتكار الحلول والقدرة على الصمود. هذا الروح الذي يرافقها وينيرها في القيام بدورها المحوريّ والأساس داخل عائلتها ومحيطها. فالأمّ هي الصورة الأولى التي يراها الطفل عن عالمه الخارجيّ. هي القدوة والمثل والمثال الذي يتعلّم منه كلّ يوم، في كلّ موقف وفي كلّ مواجهة. فالأمّ
المؤمنة، المُصلّية، المُحبّة، الحكيمة، الخادمة، الصابرة، الصامدة، المبادرة… هي أفضل سند لعائلتها ولمجتمعها ولكنيستها في جميع الأوقات والظروف.
كنيستنا زاخرة بالأمّهات القدّيسات اللواتي ربّين قدّيسات وقدّيسين رغم كلّ الآلام والفقر والاضطهاد. ولا نبالغ إذا قلنا إنّ بناء الكنيسة والمجتمع والوطن يتوقّف على بناء أمّهات على هذا المنوال.
Raiati Archives