السبب الرئيسي لاعتماد التقليد في رسم الأيقونات الأرثوذكسية بدلاً من الابتكار هو منع المفاهيم الهرطوقية من دخول الكنيسة، إذ إن البدعة يمكن تصويرها في اﻷيقونة بنفس القدر كما كتابتها في الكتب أو إعلانها من عن المنبر.
أحد هذه الابتكارات في رسم الأيقونات الأرثوذكسية، وقد بدأت في أميركا، هو تصوير “العائلة المقدسة“، حيث تبيّن المسيح إما في أحضان القديس يوسف ومريم العذراء معاً، أو في حضن القديس يوسف وحده. فيما قد تبدو هذه الرسوم بريئة، فإنها في الواقع تظهِر انعدام اهتمام بالمسائل الأساسية للعقيدة الأرثوذكسية.
تستند رسوم “العائلة المقدسة” هذه على ابتداع بابوية حيث أن البابوية أسست في العصر الحديث عيداً للعائلة المقدسة. وقد لاحظ أحد الباحثين الكاثوليك، في مقارنة بين عيد العائلة المقدسة البابوي والأعياد المسيحية في العصور القديمة، “[عيد العائلة المقدسة] … هو نتاج عصرنا الحديث، العصر الذي نحن ننتمي إليه“[1]. في رسم الأيقونات الأرثوذكسي التقليدي، يصوَّر المسيح الطفل بشكل صحيح، ليس وحده مع يوسف الخطيب، وإنما وحده مع والدته، وبالتالي التشديد يكون على عقيدة أنه هو “الابن من غير أب، الذي كان مولوداً من الآب دون أمّ قبل الدهور”.
في الواقع، لحماية المؤمنين من الفهم غير السليم لدور يوسف الأبوي وعلاقته بوالدة الإله، فإن حجمه في الأيقونات الأرثوذكسية التقليدية يكون صغيراً (بدون أن يقلّل هذا من قيمة شخصِه بطبيعة الحال)، كما أن آباء الكنيسة أيضاً يقتضبون عند الحديث عنه. على سبيل المثال، في أيقونة ميلاد المسيح، بحسب تعليق الأستاذ قسطنطين كافارنوس، “لا يظهر[يوسف] في الجزء المركزي للأيقونة، مثل والدة الإله والطفل، ولكن بعيداً في زاوية، بهدف تأكيد الرواية الكتابية وتعليم الكنيسة بأن المسيح ولد من عذراء”. ليونيد أوزبنسكي وفلاديمير لوسكي، في عملهما المحوري حول رسم اﻷيقونات، يقدمان ملاحظة مماثلة: “تفصيل آخر يؤكد أنّ في ميلاد المسيح يُغلَب ترتيب الطبيعة: يوسف. فهو ليس جزءاً من المجموعة المركزية التي تضمّ الطفل وأمه. فهو ليس الوالد لذا يتمّ إبعاده بشكل قاطع من هذه المجموعة“. وعلى المنوال نفسه، في أيقونات ذات مواضيع مماثلة، كدخول السيد أو الرحلة إلى مصر، فالرسم الأرثوذكسي لا يفهم القديس يوسف كرئيس لنوع من “العائلة المقدسة“. بدلاً من ذلك، يُنظَر إليه على أنه حارس لوالدة الإله وطفلها الإلهي تمّ اختياره تدبيرياً. إن قبوله المتواضع وإنجازه الفاضل لهذا الدور هما بالتحديد أساس توقيره في الكنيسة الأرثوذكسية”.
إلى هذا يلاحظ القديس أغسطينوس: “يوسف… يمكن أن يسمّى والد المسيح، على أساس كونه بمعنى ما زوج والدة المسيح…” فيما يصرّ أوغسطين على أنه في هذه العلاقة الزوجية “لم يكن هناك أي اتصال جسدي“ ويتوسّع في مكان آخر في هذه النقطة: “وبسبب هذا الإخلاص الزوجي [أي التبتّل المتبادل بينهما] فكلاهما جديران بأن يسميا والدي المسيح (ليس فقط هي كوالدته، بل هو أيضاً كوالده، لكونه زوجها)، فكلاهما كانا كذلك في الفكر والغرض، ولكن ليس في الجسد. ولكن في حين كان الواحد والده في الغرض فقط، فاﻷخرى والدته في الجسد أيضاً. فلهذه اﻷسباب كلّها، كانا والدَي تواضعه لا سموّه؛ والدي ضعفه [انظر 2كورنثوس 13: 4] وليس لاهوته“. وعليه، في تصوير الثلاثة معاً في الأيقونة يجب أن يظهَروا كمتممين للقصد الإلهي، لا كأسرة واحدة بحسب الجسد.
القديس أمبروسيوس أسقف ميلان، حرصاً على التعليم المسيحي التقليدي حول القديس يوسف ودوره كزوج لمريم العذراء، يحذّرنا من سوء فهم الآية الكتابية “فإن ثعبان الكفر، إذ يخرج من أماكن الفساد التي يختبئ فيها، يرفع رأسه ويتقيأ الأذى من قلوب شيطانية“. إحدى المجموعات من الناس التي قد يشوشها وصف “العائلة المقدسة ” بشكل خاص هي المتحولين من الأنجليكانية. فالإنجليكان يعتقدون بالوﻻدة من بتول، ولكنهم بغالبيتهم يرفضون العذرية الدائمة لمريم العذراء، ما يعني أنهم لا يقبلون عقيدة الميلاد من عذراء إلا جزئياً.
جزء من هذا له علاقة مع حقيقة أن الإنجيليين ينظرون إلى اﻹلفة الزوجية على أنها المثل الأعلى للحياة المسيحية، في تناقض حاد مع الكتاب المقدس والآباء الذين يعلّمون أن أسمى حالات الحياة المسيحية هي البتولية، لأنها تساعد على تركيز المسيحي على تحقيق وحدته مع الله. على مثال الهراطقة المشهورين كالإبيونيين، هلفيديوس ويوفينيان، يتمسّك اﻷنجليكان بوجهة النظر الأكثر تدنيساً وهي أن اتصالاً جسدياً تمّ بين يوسف ومريم بعد ولادة المسيح، ما يعني إنجاب أوﻻد آخرين.يدعو القديس يوحنا الدمشقي أولئك الذين يحملون مثل هذه النظرة “أعداء مريم” . وهكذا عندما يتحوّل الأنجليكان إلى اﻷرثوذكسية ويرون مثل هذه اﻷيقونات المسمّاة “العائلة المقدسة“، لن يكون مفاجئاً أن صورة كهذه تشوّشهم وتبرر الإبقاء على اعتقادات هرطقتهم السابقة.
إن عذرية والدة الإله الدائمة هي افتراض أساسي لقبول حقيقي لعقيدة التجسد. يكتب القديس غريغوريوس بالاماس: “تكرّم الله بقبول طبيعتنا منّا، واﻻتّحاد أقنومياً معها بطريقة رائعة. ولكن كان من المستحيل اتّحاد الطبيعة اﻷسمى، التي نقاؤها غير مفهوم للعقل البشري، بطبيعة خاطئة قبل أن تتم تنقيتها. لذلك، فالحمل بمُعطي الطهارة وولادته، يتطلبان عذراء نقية تماماً وفائقة الطهارة” .
يسمّي القديس باسيليوس الكبير الأيقونات “كتب الأميين“. ويقول: “أي برهان لدينا أفضل من أن اﻷيقونات هي كتب الأميين، والمذيعة الدائمة التحدّث عن إكرام القديسين، ومعلّمة الذين يحدقون بها من دون كلام ومقدِّسة للرؤيا. مَن ليس عنده العديد من الكتب ولا الوقت للدراسة، يذهب إلى الكنيسة التي هي الملجأ المشترك للنفوس، وعقله منهك من الأفكار المتضاربة، يرى أمامه صورة جميلة فينعشه المنظر، ويدفعه إلى تمجيد الله”.
اليوم، إذا دخل شخص أمّي الكنيسة الأرثوذكسية ورأى صورة “العائلة المقدسة“، كيف يُفترض به أن يقرأها بشكل صحيح من دون تفسير مطوّل؟ بدلاً من ذلك، إذا كانت الصورة تعكس الباطل أو البدعة بشكل واضح وفوري، يجب رفضها كي لا تؤدّي إلى ضلال الأبرياء والبسطاء. من المفترض أن يكون هناك تناغم كامل بين العقائد المكتوبة والصوَر التي تزيّن كنائسنا.
في الكنيسة الأرثوذكسية، لدينا العديد من العائلات المقدسة، كمثل يواكيم وحنة مع والدة الإله، زكريا واليصابات ويوحنا السابق، عائلة القديس باسيليوس الكبير، عائلة القديس غريغوريوس بالاماس…. كل هذه وغيرها الكثير هي عائلات مقدسة حقاً ينبغي لنا أن نكرّمها ونصوّرها في كنائسنا، لأنها كانت أسَراً بحسب الجسد. من ناحية أخرى، أسرة القديس يوسف الخطيب ومريم العذراء مع المسيح، لم تكن أسرة مكوّنة بالجسد، ولكن كما كتب القديس أوغسطين هي عائلة “الفكر والغرض“، وقد جمعتها العناية الإلهية للتأكد من إنجاز المسيح لعمله الخلاصي لافتداء الجنس البشري.
جون سانيدوبولوس
التراث الأرثوذكسي