ألقاها قسطنطين زلالاس في سان فرانسيكو، بتاريخ 6 تشرين الأوّل 2012
نقلتها إلى العربية رولا الحاج
(الجزأ الأول)
سيادة المطران كيرلّس،
أيّها الآباء القدّيسون، والشمامسة، والرّهبان، وحفظة أيقونة العذراء “نكتاري” المفيضة الطّيب، والإخوة والأخوات، إنّ المسيح ووالدته في وسطنا.
إنّ والدتنا الفائقة القداسة ستظلّ دومًا معنا لأنّنا، وعلى الرّغم من عدم استحقاقنا الكامل، ننتمي إلى أجيال المسيحيين الّذين يدعونها مباركة. إنّ وجودنا هنا في كاتدرائيّة سيّدة “فرح كلّ المحزونين” مع القدّيس يوحنا (مكسيموفيتش) رئيس أساقفة شنغهاي وسان فرانسيسكو، هو استمرار لإتمام الكلمات النّبويّة الّتي تلتها مريم العذراء في نشيدها الرائع بعد البشارة: “ها منذ الآن تطوِّبني جميع الأجيال!” رغم انتمائنا إلى أجيال المسيحيين الأكثر توغّلاً في الخطيئة، فوجود هذه الإيقونة العجائبيّ والعطر أبدًا في ما بيننا يؤكّد ما جاء في النشيد القديم لكنيستنا المقدّسة: “في ميلادك حفظت البتوليّة… وفي رقادك ما أهملت العالم يا والدة الإله”.
هل من برهان أعظم لهذه الحقيقة؟! فخلال السّنوات الخمس الماضية، باركتنا بطيب ابنها الفردوسيّ. مَسَحتنا بالعطر السماويّ للثالوث القدّوس، أي بزيت الإبتهاج، كما جاء في المزمور المسيحانيّ 45 للملك داوود. نعم، يُمكننا أن نفتخر بالرّب، وبوالدته، وبكنيستنا الأمّ، عمود الحقيقة وأساسها! لا نستطيع تذوّق الملكوت في هذه الحياة إلاّ في الأرثوذكسيّة! إنّنا نرى عظائم الله، ونشِّمُّها، ونتذوّقها، ونلمسها، ونعيشها بأجسادنا ونفوسنا! عمّانوئيل، الله معنا! وفي الوقت عينه، نحزن لتيتمّ ملايين المسيحيين غير الأرثوذكسيّين من حولنا، لأنّهم لم يختبروا في الحقيقة الحضن الدافئ لأمٍّ بهذه العظمة – وهو القبلة العذبة لأمّنا السّماويّة. إنّ الطّيب الفائض من هذه الأيقونة الّتي تلامسها شفاهنا غير الطاهرة، هو أعذب قبلة من – أيقونة القبلة العذبة لأمنا العذراء.
لقد نجح داوود النبيّ والملك، جدّ العذراء القدّيسة، ، بنقل وبشكلٍ جميلٍ ما اختبرناه مع طيبها العجائبي، هذا الطّيب الّذي ما انفكّ يفيض ليس في هذا الأسبوع فحسب، بل خلال السنوات الخمس الماضية. فقد كتب منذ حوالى 3060 سنة عن عظائم المسيح، وعروسه الكنيسة، ووالدة الإله – العذراء مريم – لأنّ أمّنا العذراء هي مرادف للكنيسة – وأستشهد هنا بما يلي:
“لذلك مَسحك الله إلهك بزيت الإبتهاج (elaion aggaliaseos)، أفضل من رفاقِكَ.”
يا لها من نبوءةٍ مُدهشةٍ حول السرٍّ الخفيّ – الخفيّ قبل كلّ الدهور! إنّ الزيت مادّيّ، ولا يُمكن المسح بالزيت إلّا في العالم الماديّ! فالرّوح لا يمكن أن تُمسح بالزيت! أيّ إله يمكن أن يُمسح بالزيت؟ إنّه الله الّذي يمكن ان يَخطُبَ لنَفسِه خليقته الماديّة، في الزمن. تشير إذًا عبارة “مسحك الله إلهك…” إلى طبيعة المسيح البشريّة.
لقد أخفى الشيطان هذه الآية عن آريوس ومعاصريه، الّذين حاربوا ألوهيّة المسيح. تذكّروا كيف خاطب الله الثالوث يسوع المسيح كإله منذ 3060 سنة تقريبًا! إنّ الآية التّالية لا تقلّ روعة عن هذه: “المُرّ والمَيْعَة والسَّليخة تفوح من ثيابِكَ… ثيابك كلّها معطّرة بالمرّ…” إنّها نبوءة مدهشة عن الأشخاص المقرَّبين من المسيح: أوّلاً مريم العذراء، ثمّ العذارى القدِّيسات كلّهنّ اللواتي ستقودهنّ إلى هيكل المَلك، بحَسب ما جاء في المزمور نَفسه. لقد تقدّسنا كلّنا وسَتَرنا عُريَنا الرّوحيّ بالرّداء المسمّى المسيح! لأنكم تعَمَّدتُم جميعًا في المسيح فلَبِستُم المسيح، كما يقول القدّيس بولس.
إنّ آدم وحواء أُلبِسا رداءً من نسج الله، رداءً غير ماديّ، رداء النّور غير المخلوق… ولكن بعد عصيانهم المأساويّ، خَسرا ذلك الرّداء العطر، وأُلبسا جلود الحيوانات الميتة. خَسرا رائحة الفردوس، واختارا رائحة الموتِ والفساد… إنّ سوء استخدام أسلافِنا لعطيّة الإرادة الحرّة أزال الله من قلب حياتهم، إذا جاز التّعبير… ومع هذا، تعيَّن على محبّة الحكمة الأقنوميّة وشوقها أن تعيش بين النّاس… فأحد ألقاب المسيح في العهد القديم هو حكمة الله. نقرأ في الفصل الثّامن من سفر الأمثال “كنتُ (الحكمة) عنده صانعًا مبدعاً، ومسرّاتي مع بني البشر…”
لن أقرأ عليكم آياتٍ بعد الآن…إنّها طريقة جيّدة لجعل بعضكم يقرأ الفصل كلّه.
منذ عدّة أسابيع، كنت ألقي حديثًا في إحدى رعاياكم، في كنيسة الرّسل القديسين، في بيلتسفيل- مريلاند، وكانت لنا مفاجأة سارّة مفرّحة… زارنا الميتروبوليت هيلاريون Ilarion وبقي لسماع الحديث. عارضتُه، وحَاولتُ أن أُقنِعَه بأن يُعلّم، ولكنّني لم أنجَح. ذهلتني بساطَته وتواضعه… لا عجب أن يُباركُكَ الله بأيقوناتٍ عجائبيّة عندما تتوفّر مثل هذه القيادة… حَاولتُ أن أقنِعَهُ مُجدّدًا بإلقاء كلمة بَعد حَديثي، فقال بِضعَ كلِمات. مع هذا، لقد كان المعلّم الحقيقي في تلك الأمسيّة. عَلَّمنا جميعًا بتواضعِهِ وبساطتِهِ. نسأل الله أن يمنحه وكَهَنَته كلّهم العمر المديد! وبين المُلاحظات الّتي ذكرها في تلك الأمسيّة أنّه لفَتَ إلى كسلِنا، نحن الأرثوذكسييّن، في قراءة الكتاب المقدّس… لذلك، رأيتُ أنّه من الجيّد، من الآن فصاعدًا، أن أذكر الفصل (فحسب)، وأولئك الّذين يُحبّون كلمة الله فعلاً سَيقرأون الفصل لإيجاد الآية.
فمسرّة الحكمة إذًا – في الفصل الثّامن من سفر الأمثال – كانت في لبس الأردية والعيش مع بني البشر. كانت هذه مسرّة الله (kat’evdokian)- إرادة الله السابقة أو الأوليّة. خَلقَ الله الكون كلّه مِن خِلال صانعه المبدع، الحكمة – كَلِمتَه، وجمّله ليشاركنا محبته.
ولكن بعصيان آدم وحواء إرادة الله، أصبحت الحكمة بلا مأوى. الخطيئة، والموت، والفساد كلّها عزلَت الطّبيعة عن الله. اضطُرّ الله أن يستعير أرديته الماديّة الأولى من هذا العالم الماديّ، ولكنّه لم يجد ما يتلاءم وطهارته الفائقة. وِفقًا للقدّيس غريغوريوس (بالاماس)، رئيس أساقفة تسّالونيكي، لا يستطيع الله أن يَلمس ما كان دنسًا، والسّقوط جَعَل العالم دنسًا. وأمسَت أردية الإنسان ملوّثة بالدمّ والخيانة والشَّر.
يقول آباء الكنيسة والقدّيس نيقوديموس الآثوسي، إنّ تجسّد الله مُستقِّلٌّ عن السّقوط. فالحمكة كان سيتجسّد بغضّ النّظر عن السّقوط. إنّ الهدف الأساسي للإنسان هو أن يبلغ التألّه، ولا يُمكن أن يَتحقّق ذلك من دون الإتحاد الأقنوميّ لطبيعَتَي المسيح. فرغبة الله السّابقة أو الأوليّة إذاً، كانت أن يتجسّد ويعيش مع خليقته. كانت مسرّة الحكمة أن يعيش مع بني البشر.
بفضل معرفته المُسبقة بالسقوط قام الله، قبل الدهور، ببعض التعديلات الطفيفة. هذا ما يُسمّيه شيخي ومُعلّمي أثناسيوس ميتيلناوس ارادة الله الامتيازيّة أو الثانويّة. إنّه أمرٌ مهمٌ للغاية وخاصّةً بالنسبة إلى أولئك المُهتَدين الّذين قد يقعون في صراع مع عقيدة التحديد المسبَق الغربيّة. فمعرفة الله المُسبقة لا تتعارض ومفهوم إرادة الإنسان الحرّة. الله يسبق فيحدّد، بإرادته الأوّليّة، ولكنّه يصحّح الخيارات السيّئة لإرادة الإنسان الحرّة بإرادته الثانويّة. مثلاً، كانت إرادة الله الأوليّة أن يبقى آدم وحوّاء في الفردوس من دون خطيئة، ويتكاثر الجنس البشريّ، ويتضاعف بعد ذلك بطريقةٍ ملائكيّةٍ.
ولكن نظرًا إلى السقوط، تلك الخطيئة الجديّة المأساويّة، عيَّنَ الله بفضل معرفته المُسبقَة شبكة أمان تُعرف بالجنس أو الزواج. إنّ الزّواج بين الرّجل والمرأة هو إذاً شبكة الأمان الّتي تحمي الإنسان من نتائج السّقوط الأوّل الموروثة. كانت البتوليّة والطهارة ارادة الله الأوليّة، أي حالة ملكوته. بارك الله بالتأكيد الزّواج، إلّا أنّ الزّواج يشكّل ارادة الله الثانوية، وبالتّالي، لن يكون موجودًا في ملكوت الله، حيث لا يسود إلاّ رغبته الأوليّة.
فيما كنت أكتب هذه السطور، ألقيت نظرة سريعة إلى الفصول الأولى لسفر التّكوين. في نهاية كلّ يوم من أيام الخلق، استخدم الله العبارة التالية:” ورأى الله أنه حسنٌ“. كرَّر ذلك مع مخلوقاتِه الطبيعيّة كلّها ولكن ليس مع مخلوقاته البشريّة.
وهنا نقرأ: “خَلَق الله الإنسان على صورَتِهِ، على صورة الله خلق البشر، ذكرًا وأنثى خَلقَهُم“. هنا لا نجد عبارة ورأى الله أنه حسنٌ.
غير أنّنا نقرأ في نهاية الفصل نَفسه: ” ونَظَر الله إلى كُلِّ ما صَنَعَهُ، فرأى أنَّهُ حَسَنٌ جِدًا”. فوِفقًا للقديس نيقوديموس، الّذي غالبًا ما يَستشهد بأقوال القدّيسَين غريغوريوس بالاماس ومكسيموس المعترف، تتضمَّن عبارة أنَّهُ حَسَنٌ جدًّا مُساهمة العذراء الكليّة القداسة. إنّ عفّتها وطهارتها المذهلتين تؤازران الله في معاكسة سقوط آدم. فهي قد أصلَحَت بكلماتها ” ليكن لي بحسب مشيئتك” إرادة آدم السّقيمة. وقع اختيار الله عليها ليجدّد الإنسان من خلالها عندما قال أنَّ كل شيء، كان حقًّا حسنٌ جدًا.
إنّ الخطيئة، الّتي استمرّت في آدم ونسله، جعلت الحكمة بلا مأوى وعاجزةً عن امتلاك أردية (أي طبيعته البشريّة). كان يحتاج إلى بيت بحسب ما جاء في الفصل التاسع من سفر الأمثال: “الحكمَة بَنَت بيتها. نَحَتت أعمِدتها السَّبعة”… إنّ بيت الحكمة وهيكلها الحقيقيّ هما مريم الناصريّة. كانت الحكمة تحتاج إلى عذراء طاهرة لتجعل منها رداءً لها، وتتمكّن بالتالي من أن تلِد عروسها الكنيسة، وتؤسسها على الأعمدة السبعة – أي أسرار الكنيسة المُقدَّسة – وتهتف: تعالوا، كُلوا مِن طعامي واشربوا الخمر الّتي مزجتها بالماء!… ذاك الماء هو إناء الماء الحارّ، يَحمله خدّام المذبح إلى الكاهن الّذي يُقيم الذبيحة.
ما كان أيّ من هذه الأسرار ليتمّ لولا عبارة عذرائنا المفيضة الطّيب: ” ليكن لي بحسب قولك”.
سامحوني من فضلكم إذا أرهقت بعضكم بهذه المقدّمة الطويلة، الّتي تبدو لاهوتيّة جدًّا، ولكنّ هذه المعرفة ستساعدنا بعض الشيء على فهم انشغال قدّيسنا في تقدير، وتمجيد شخص والدة الله الكليّة القداسة… فالقدّيس العظيم غريغوريوس، اللاّهوتيّ الثاني في كنيستنا، حذَّر بوضوح كليودونيوس وأتباعه السّابقيِن والمعاصرين كلّهم: “كلّ من لا يدعو مريم Theotokos – والدة الله – ينفصل عن الإله – ويكون كافرًا…” إنّها كلمات ذات وقع قويّ جدًا من هذا اللاهوتيّ ذي الإحساس المرهف والوداعة الشّديدة.
ويخلص القديس نيقوديموس الآثوسي إلى القول إنّ شخصًا واحدًا في تاريخ البشريّة تمكّن من تخطّي السموّ الروحيّ حتّى للعالم الملائكي. وِفقًا لهذا الأب القدّيس، اشتركت المخلوقات كلّها “بقوى الله وحدها، في حين استقبلت سيدتنا في أحشائها، أقنوميًّا، الشخص الثاني من الثالوث القدوس لينتهي بها الأمر بشكل رئيسيّ إلى أنها حقًا والدة الإله… لتثبت حسب إرادة ومعرفة الله المُسبَقَة، بأنّ والدة الإله كانت الغاية النهائيّة والهدف الأقصى للمخلوقات كلّها”[1].
يذكّر تعليم القديس نيقوديموس الآثوسي طبعًا بتعليم الآباء القديسيّن حول والدة الإله الفائقة القداسة، أي تعليم الكنيسة. إن الحبّ الرّوحي المتّقد، الّذي يكنّه هذا القدّيس لوالدة الإله الفائقة القداسة، يوازي الحبّ العميق والتقوى الشديدة الّتي شعر بها الآباء القدّيسون كلّهم تجاه شخص أمّ الله الفائقة الجلال[2]. كذلك، يعتبر ذلك بديهيًّا في سِيَر حياة القدّيسين الأرثوذكسيّين: لا يُمكن لأحد أن يكون قدّيسًا إن لم يحبّ أوّلاً والدة الإله حبًّا عميقًا. لاهوت القدّيس نيقوديمس في والدة الإله أتى نتيجة تقوى هذا القدّيس نحوها وحبّه العميق لها، وخبرته الشخصيّة، حيث عاش حياته ممجِّدًا اسمها بدون انقطاع. ووفقًا لروايات شفهيّة من رهبان عاصروه، غالبًا ما كانت والدة الإله تظهر له وتقول: “أباركك، يا بني نيقوديموس، وأقوّيك لتكتب”[3].
طبعًا، بفضل البصيرة الرّوحيّة القويّة الّتي تحلّى بها القدّيسون جميعهم (وتحديدًا لأنّهم كانوا قدّيسين)، فهموا أنّ والدة الإله حظيت بمحبة الله، فأصبحت محبوبة جدًا عند المحبوب الوحيد بفضل قداستها المطلقة. ولكن، حتّى القدّيسين يعترفون بعجزهم الكامل عن مقاربة المحيط اللاّمحدود لسرّ بتوليّتها الدّائمة ولو جزئيًّا. لقد كتَبَ القدّيس باسيليوس أسقف سلوقية في هذا الإطار: “من أين لي الجرأة أن أفتّش في محيط سرّ البتوليّة العظيم وعمقه، إن لم تعلّميني انت يا والدة الإله، أنا السبّاح المفتقر إلى الخبرة، كيفيّة تحرير الإنسان القديم الفاسد بضلال الشهوة”.
إن الحبّ الكبير الّذي يُكنّه القديس نيقوديموس لشخص والدة الإله الكليّة القداسة دفعه إلى تمجيد اسمها بدون انقطاع، ووصف مدى غبطتها، وتمجيد العظائم الّتي صنعها الله القدير بها (لوقا 1: 49).
في الثيوطوكاريون، – وهو كتاب يحتوي على 2450 ترنيمة للعذراء تزخر بالتوبة وتُقرأ في أديارنا يوميًّا-، كَتب القدّيس نيقوديموس ما يلي: ” [من بين يالمخلوقات جميعها]، وحدها تحلّت منذ الولادة بثبات كامل لا يتزعزع في وجه الشرّ. كانت قد أماتت إلى الأبد النزعات الأهوائيّة لقوى النفس الثلاثة (العقليّة، والشهوانيّة، والانفعاليّة). لأنّها وَلَدَتْ من هو خالق كلّ شيء وإنسان صُلِبَ بالجسد[4]. في تفسير الترنيمة التاسعة، يوسّع القدّيس نيقوديموس نظريّته اللاهوتيّة في أنّ والدة الإله تسمو على سائر مخلوقات العالم من ناس وملائكة، فيقول: “بنقاوتها الفائقة الطبيعة في حياتها كلّها، ولا سيّما خلال إقامتها لمدة اثني عشرة عامًا في قدس الأقداس، استحقّت العذراء مريم بجدارة أن تُصبح أمًّا لابن الله وكلمته نفسه“[5].
ويُتابع القدّيس قائلاً: “من تُراهُ أنقى من والدة الإله وأوفر قدرةً على استعراض أسرار السماء؛ ليس بين مراتب الملائكة أو الناس مَن يفهم عظائم الله أفضل منها“[6].
مع هذا، في لاهوتنا الحديث، لا سيّما في المجال الأكاديميّ حيث كان تأثير البروتستانت شديدًا، قد نسمع عبارة “الأول بعد الواحد” الّتي تميّز العمق الفكري واللاهوتيّ لـ”فمّ المسيح”، الرّسول بولس. كان رسول الامم بالتأكيد إناء للنعمة، إناءً مُختارًا، خادمًا دؤوبًا للكلمة.
إلاّ أنّ التقليد المقدّس الحيّ، الّذي حَفِظَ الكنيسة من مثل هؤلاء اللاهوتيّين العقلانيّين على مرّ العصور، يميّز لاهوتيًّا واحدًا لا منازع له يُعتبر “أسمى من السماوات وأنقى من أشعة الشّمس”، بحسب القدّيس نيقوديموس، الّذي لخّص الضمير الشامل لآباء الكنيسة، من خلال محاولته تقيّيم شخص والدة الإله غير المُتكرّر والدائم الفرادة. يُفسّر القديس نيقوديمس في اعترافه الإيمانيّ[7]، أنّ “الأول بعد الواحد” في العقيدة الأرثوذكسيّة هي أمّنا العذراء، والنظرة الأُرثوذكسيّة لحركة الكوليفاديس Kollivades (القدّيس نيقوديمس، والقدّيس مكاريوس الّذي من كورينثوس، والقدّيس أثناسيوس باريوس)، الّتي شدّدت على الحاجة الدائمة للمناولة المقدسة المتواترة وتلك المتعلّقة بإقامة قداديس تذكاريّة يوم السبت المحدّد وليس الأحد، الأمر الّذي أشعل ثورة في نفوس “رهبان الجبل المقدّس المتعصبين وغير المثّقفين” في القرن الثامن عشر، ما أنتج جوًّا من الإفتراءات والغضب ضدّه لإثني وعشرين عامًا[8].
طبعًا، برَّأ المجلس المقدّس لجبل آثوس القدّيس من هذه الحرب غير المبرَّرة الّتي سبّبتها حاشية جريئة في كتابه الصادر حديثًا، تحت عنوان الحرب اللامنظورة[9]، وجاء فيها: “بكل حقّ، الله الثالوث القدّوس، سُرّ وابتهج كثيرًا قبل الدهور عالمًا، بحسب سابق معرفته، بمريم الدائمة البتولية. وذلك لأنّه بحسب رأي بعض اللاهوتيّين، لو صار الناس كلّهم منذ الدهور أشرارًا وذهبوا جميعاً إلى الجحيم وسقطت رتب الملائكة التسع من السماء وأصبحوا شياطين… مع هذا كلّه، هذه الشرور كلّها مقارنة بملء قداسة والدة الإله، لن تكون قادرة على إحزان الله، لأنّ السيّدة والدة الإله وحدها قادرة أن تفرّحه بالكامل في كلّ الأحوال… هي الوحيدة الّتي أحبّته قبل كلّ شيء، لأنّها وحدها أطاعت إرادته، قبل كلّ شيء، ولأنّها وحدها كانت قادرة أن تتلقّى هذه المواهب الطبيعيّة، والإختياريّة، والفائقة الطبيعة – الّتي وزّعها الله على خليقته كلّها…”[10]
ويتضمّن تفسيره للترنيمة التاسعة تعدادًا لمواهب والدة الإله الفائقة القداسة هذه كلّها، حيث يُعبّر القدّيس صراحةً عن شوقه الّذي يُصعب إشباعه، “ما أعذب شخصكِ واسمكِ يا مريم، ما هذا الحبّ الّذي أشعر به في داخلي؟ لا أستطيع أن أكفّ عن الإشادة بعظائمكِ! فكلمّا أشَدْتُ بها كلّها، تُقتُ إليها أكثر، شوقي لن ينطفئ أبدًا، وتوقي لن ينتهي…”[11]
يُشدّد القدّيس نيقوديموس، في المقطع “لأنّه نظر إلى تواضع أمته”، على عمق تواضع سيّدتنا العذراء، كما في الحواشي، “لم يكن عمق التواضع متجذّرًا في قلب والدة الإله فحسب، بل فاض كالنّبع المتدفّق ليغمر أعضاء جسدها الطاهر الخارجيّة كلّها… أشرق تواضعها مثل الشمس، في سلوكها كلّه، وفي حركاتها، وفي كلماتها، وفي طبيعتها الداخليّة كلّها ومظهرها الداخليّ… فبشكلٍ عام، شعّ حضور والدة الإله نعمةً إلهيّةً واحترامًا كبيرين، فولّدا كثيرًا من الإجلال والانسحاق في نفس الناظر إليها للمرّة الأولى… حتّى من تلك النظرة الأولى كان يعرف المرء – من طبيعتها الخارجيّة فحسب – أنّها حقًا والدة الإله…
كالقدّيسين جميعهم، أحبّ القدّيس ديونيسيوس الآريوباغي المسيح ربّه حبًّا عظيمًا. عندما عَلِم أنّ والدة المسيح الكليّة الطهارة كانت لا تزال على قيد الحياة، سافر من أثينا للقائها. دُهِشَ عندما وقع نظره للمرّة الأولى على وجهها الإلهيّ وجمالها الرائع والملوكيّ، وقد أحاط بها الملائكة كملكة… ولدى سماعه الكلمات الإلهيّة من فمها الكليّ النقاوة، دُهش وملكته الرّهبة، معترفًا أنّ طبيعة جسدها ومظهرها الخارجيّ كافيان وحدهما بإظهار أنّها والدة الإله[12].
امتلكت السيّدة العذراء بشكلٍ كامل رداء التواضع من نسج الله. فعلى الرّغم من أنّها اختيرت لتكون حقًا والدة الإله وملكة المخلوقات المنظورة وغير المنظورة كلّها، عند بشارة الملاك جبرائيل لها، عرّفت بنفسها لهجة هادئة عفويّة ليس فيها تصنّع أنّها أمّة الربّ[13]. كلّما أصبحت الروح أكثر طهارة وكمالًا، شعرت بضعفها وعدم جدارتها. هذه كانت قوّة تواضع الدائمة البتوليّة، الّتي حسبَت نفسها غير مستحقّة لتكون خادمة العذراء الّتي تكلّم عنها أشعياء، وكانت ستلد المسيح بحسب مُضيفِنا القديس يوحنا رئيس أساقفة شنغهاي وسان فرانسيسكو (أشعياء، 7: 14)[14]. إلى ذلك، يرى بعض المعلّمين أيضًا “أنّ العذراء، نظرًا إلى تواضعها الكبير والفريد، لم تكشف لخطيبها يوسف عن بشارة الملاك جبرائيل، كي لا تبدو متباهية ومغرورة، بل تركت لله أمر إبلاغه من الأعالي”[15].
إحفظينا يا والدة الإله الكليّة القداسة واحمينا، وخلّصينا من سهام الشرير الحارقة بصلوات آبائنا القدّيسين. آمين.
والدة الإله الفائقة القداسة عند القديس نيقوديموس الآثوسي1
[1] Theoklitos Dionysiatis, Saint Nicodemos the Hagiorite, 2nd Edition, pp. 250.
[2] المرجع نفسه، 245
[3] المرجع نفسه، 248
[4] Theoklitos Dionysiatis, Saint Nicodemos the Haghiorite, pp. 187.
[5] St. Nicodemos, Garden of Graces, pp. 196.
[6] المرجع نفسه، 195
[7] Saint Nicodemos, Handbook of Counsel, Athens 1987, pp. 314.
[8] Krikonis Chris., Saint Nicodemos the Haghiorite, Life and Written Work, Athens 2001 pp. 125.
[9] أنظر، Theoklitos Dionysiatis, Saint Nicodemos the Hagihorite, pp. 246
[10] المرجع نفسه
[11] Saint Nicodemos, Garden of Graces, pp. 214
[12] المرجع نفسه، 204
[13] المرجع نفسه
[14] Saint John of Shanghai and San Francisco, The Orthodox Veneration of MARY the birthgiver of God, California, 1996, pp. 65.
[15] Saint Nicodemos, Garden of Graces, pp. 205