على الإيقونات البيزنطية والروسية القديمة لقيامة المسيح لا نجد أبداً تصويراً للحظة القيامة بالذات. ما نراه هو نزول المسيح إلى الجحيم أو بالأحرى إخراج آدم وحواء وغيرهما من شخصيات الكتاب المقدس منه. وتحت قدميْ المخلّص هاوية الجحيم السوداء على خلفيتها أقفال ومفاتيح وحطام الأبواب التي كانت واقفة في وجه الأموات في طريقهم إلى الفردوس.
إن هذا النمط من رسم الإيقونة هو الذي يعتبر قانونياً لأنه يعكس التعليم التقليدي حول نزول المسيح إلى الجحيم وانتصاره على الموت وإقامته الأموات وإخراجهم من الجحيم الذي كانوا محبوسين فيه قبل قيامته. إلا أنه في القرون الأخيرة كثيراً ما التجأ الرسّامون عند إبداعهم صورة القيامة إلى صور أخرى مقتبسة من التقليد الغربي وهي صورة المسيح القائم الخارج من القبر ماسكاً في يده راية النصر. ولكن هذه الصورة لا تعتبر تقليدية بالنسبة للأرثوذكسية.
إنّ كل صورة من صور الإيقونات الأرثوذكسية ترجع إلى نقطة معيّنة تتعلق بالقدّاس. فليس ثمة إيقونات أو رسوم جدارية لا ترتبط قصّتها بأحد أيام التقويم الكنسي بشكل أو بآخر. وأما إيقونة النزول إلى الحجيم فتتعلق بيوميْ سبت النور والفصح اللذين يتمّ ذكرهما في القداس. ويعتمد التعليم عن النزول إلى الجحيم على عدّة نصوص من الكتاب المقدس أوّلها رسالة بطرس الرسول: ” فإنّ المسيح أيضاً تألم مرّة واحدة من أجل الخطايا، البارّ من أجل الأثمة، لكي يقرّبنا إلى الله، مماتاً في الجسد، ولكن محيى في الروح، الذي فيه أيضاً ذهب فكرز للأرواح التي في السجن” (1بط 3: 18-19). ولكن موضوع نزول المسيح إلى الجحيم الذي نجد تصويره في تقليد كتابة هذه الإيقونة تتناوله النصوص الأبوكريفية المبكرة بشيء من التفصيل.
فهناك إيقونة أخرى تصوّر المسيح وهو لا يطأ أبواب الجحيم فقط، بل الجحيم نفسه مصوراً في شكل شيخ مقيّد بالقيود والربّ واقف فوقه منتصراً. في “إنجيل نيكوديموس” وهو النص الأبوكريفي الذي وصل إلينا من القرن الخامس ولا يتناقض مع التعليم الأرثوذكسي بشكل عام، رغم أنه لم يُدرج في قانون العهد الجديد، نجد حواراً بين الشيطان والجحيم. فيحاول الجحيم مقاومة مجيء المسيح ويأمر الشياطين “بإغلاق الأبواب والأقفال الحديدية بإحكام”. ولكن يُسمع صوت يقول: “ارتفعن أيتها الأبواب”، فيسأل الجحيم إثر ذلك: “من هو ملك المجد هذا؟” فيردّ الملائكة: “الربّ القدير الجبّار، الربّ الجبار في القتال”. ففي الحال تتحطم الأبواب النحاسية وتنكسر الأقفال الحديدية وتسقط القيود من على جميع الموتى. ويقيّد ملك المجد الشيطان ويسلّمه إلى الجحيم قائلاً: “امسكه بإحكام حتى مجيئي الثاني”. وعند قبول الشيطان يقول الجحيم له: “انظر، لم يعد لديّ ولا ميت واحد”. وفيما بعد نجد وصفاً لإخراج الموتى من الجحيم من قبل المسيح المتجسّد: “بسط ملك المجد يمينه وأمسك بها آدم وأخرجه، والتفت إلى الآخرين قائلاً: تعالوا يا جميع الذين ماتوا بسبب لمسه الخشبة، ها أنا أقيمكم ثانيةً بخشبة الصليب… فأخرج الجميع وأصبح الآباء وهم يسيرون وراءه يرتلون: مبارك الآتي باسم الرب، هلليلويا، له مجد جميع القديسين”.
إن “إنجيل نيكوديموس” هذا يتضمّن كل الأفكار والصور التي استعان بها الأدب المسيحي في القرون التالية لتصوير ما يسمّيه علماء اللاهوت الأوروبيون المعاصرون بـHöllensturm “اقتحام الجحيم”، لأن المسيح لم يقم بمجرّد النزول إلى هاوية الجحيم، بل اقتحمها متغلباً على مقاومة الشيطان ومحطماً الأبواب وخالعاً أقفالها كمنتصر تنهار أمامه قوى الشر.
لننتبهْ إلى عبارة واحدة من “إنجيل نيكوديموس” وهي قول الجحيم أنه “لم يعدْ لديّ ولا ميت واحد”. في إيقونة النزول إلى الجحيم كثيراً ما يُصوّر المسيح ماداً يديه إلى آدم وحواء لإخراجهما، وأحياناً نجد بجانبهما غيرهما من الناس خارجين لابسين ملابس بيضاء ذوي الهالة أو بدونها. فمن هم؟ هل حقاً خلا الجحيم حسب قول الأبوكريفا؟ هل أخرج المسيح جميع الناس الذين كانوا في الجحيم قبل قيامته؟
قد تناولت إيقونة القيامة هذه المسألة أكثر من مرة. فيصوّر الرسم الجداري المشهور في دير “خورا” في القسطنطينية (القرن الرابع عشر) موضوع نزول المسيح إلى الجحيم بشكل درامي خاصّ. في وسط الصورة نجد المسيح لابساً ملابس بيضاء وهو يمسك بيده اليمنى يد آدم وبيده اليسرى يد حواء. نرى آدم يكاد يركض نحو المسيح بينما حواء تصعد بصعوبة من أعماق الجحيم. عن يمين المسيح نجد يوحنا المعمدان وأنبياء وأبرار العهد القديم ذوي الهالة وعن يساره خطاة العهد القديم على رأسهم قايين واقفين في حيرة. هل تخصّهم كرازة المسيح أيضاً؟ هل يتبعه قايين، هل يخلص؟ وماذا عن باقي الخطاة؟ كأنّ الإيقونة تعني أنّ الحكم على مسألة الخلاص النهائي ليس بأيدينا وأنّ حكم الله غير حكم الناس.
إنّ عقيدة نزول المسيح إلى الجحيم هي جزء من التعليم الأرثوذكسي عن الخلاص، إلا أنّ تفسيره لهذه المسألة يتعلق بطريقة فهمنا لكرازة المسيح في الجحيم وعملها الخلاصي في الناس. إذا لم نأخذ في الاعتبار سوى كون الكرازة هي للأبرار المختارين للعهد القديم نكون حصرنا بذلك المعنى الخلاصي للعقيدة في إطار محدود، أمّا إذا افترضنا أن الكرازة وُجّهت إلى جميع الموجودين في الجحيم تزداد أهمّيتها ازدياداً كبيراً. يمكننا أن نوافق رأي عالم اللاهوت اليوناني “إ. كارميريس” في أنه “حسب تعليم الأغلبية الساحقة من الآباء الشرقيين كانت كرازة المسيح في الجحيم تشمل الجميع بلا استثناء وأصبحت لجميع الموتى الراقدين منذ الدهر سواء أكانوا من اليهود أو اليونانيين أو من الأبرار أو الأشرار الحرّية في اختيار خلاصهم”. ونجد نفس الفكرة عند بروفسور اللاهوت اليوناني “ن. فاسيلياذيس” حيث يقول “إن الربّ نزل إلى الجحيم طوعاً منتصراً، فكرز لجميع الأرواح المتواجدة هناك من الخطاة والأبرار واليهود والوثنيين. وكما أنّ شمس العدل أشرقت للساكنين في الأرض، هكذا أضاء نوره للمحبوسين تحت الأرض في الظلمة وظلال الموت”. وكما جاء إلى الأرض بالسلام وإلى الخطاة بالمغفرة وإلى العمي بالبصر، هكذا أتى بنفس الإعلان إلى المتواجدين في الجحيم “لكي تجثو أمامه باتضاع كل ركبة ممّن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض” (في 10:2). أي أنّ الإله الإنسان بنزوله إلى الأرض، بل إلى تحت الأرض، فتح الطريق إلى الله الحقيقي للجميع وكرز ببشارة الخلاص ليملأ الله الكلّ وليسود الربّ على الأحياء والأموات (رو 14: 9). وبالتالي، جاءت كرازة المسيح في الجحيم كبشارة خلاص وفرح ليس للأبرار فقط، بل لغيرهم أيضاً ولم تكن مجرّد توبيخ على عدم الإيمان والحقد حسب اعتقاد توما الأكويني. إنّ رسالة بطرس الأولى التي تتناول موضوع كرازة المسيح في الجحيم تكشف لنا خطأ فهم هذه الكرازة من باب التوبيخ والإدانة.
ولكن هل استجاب جميع المتواجدين في الجحيم لدعوة المسيح فأُخرجوا منه؟ لا تزال جدالات كثيرة تدور حول هذه المسألة. فيقول أصحاب الرأي الأول إنّ المسيح لم يخرج إلا أبرار العهد القديم، بينما يعتقد أصحاب الرأي الآخر بأن كل من أراد أن يتبع المسيح بعد أن خلع أبواب الجحيم وحطم أقفاله فعل ذلك. ويرد في النصوص الليتورجية كثير من الإشارات إلى أن جميع المحبوسين في الجحيم قد نالوا الخلاص على يديْ المسيح. ولكن نظراً لأن الله لا يتدخل في حرّية إرادة البشر فقد بقي في الجحيم من لم يرغب في أن يتبع المسيح بمن فيهم إبليس والشياطين.
إذا وافقنا على رأي علماء اللاهوت الذين يعتقدون أن المسيح لم يخرج من الجحيم سوى الأبرار، فيتلخص عمل الخلاص في مجرّد تحقيق العدل لا غير. ولكن في هذه الحالة نتجاهل المعجزة التي يرتجف أمامها الملائكة وترتل لها الكنيسة في أناشيدها وننسى رحمة الله. إنه من وجهة نظر الأرثوذكسية، بخلاف المسيحية الغربية، يجوز خلاص ليس أولئك الذين كانوا مؤمنين في حياتهم الأرضية فحسب، بل الذين أرضوا الله بأعمالهم الصالحة وإن لم يتأهلوا بأن يصلوا إلى الإيمان السليم. هذه الفكرة نجدها في أحد الأناشيد الذي ألـّفه القديس يوحنا الدمشقي. فحسب رأيه يمكن للذين لم ينالوا التعليم عن الإيمان الصحيح في حياتهم الأرضية أن يؤمنوا وهم في الجحيم، لأنهم بأعمالهم الصالحة وحياة التقوى والابتعاد عن الخطيئة قد أعدّوا أنفسهم للقاء المسيح. هنا يجري الحديث عن أولئك الذين قال عنهم بولس الرسول إنهم “فعلوا بالطبيعة ما هو في الناموس” وليس عندهم الناموس و”أظهروا عمل الناموس مكتوباً في قلوبهم” (رو 2: 14-15). المقصود هو أن الذين يعيشون وفقاً لناموس الأخلاق الطبيعية دون أن يعرفوا الإيمان الحق، هناك أمل في أنهم سيتعرّفون على الله عندما يرونه وجهاً لوجه، أيْ يعرفون “الذي يتـّقونه وهم يجهلونه” (أع 23:17).
وحسب التعليم الأرثوذكسي جميع الموتى المؤمنين وغير المؤمنين على حدّ سواء سوف يتمثلون أمام الله. وبالتالي هناك أمل في أنّ حتى الذين لم يؤمنوا في حياتهم على الأرض سيعترفون بأنّ الرب هو مخلـّصهم وفاديهم، بشرط إذا كانوا قد ساروا في حياتهم الأرضية نحو هذا الاعتراف مفتـّشين عن الله الحقيقي.
إذاً، لا نعرف إذا كان الجميع قد تبعوا المسيح حين اقتحم أبواب الجحبم أولاً، كما يصعب علينا الافتراض بأن الجميع سيتبعونه في ملكوته بعد يوم الدين. ولكن ما نعرفه بالضبط هو أنه منذ لحظة نزول المسيح إلى الجحيم أصبح الطريق إلى القيامة مفتوحاً لكل مخلوق والخلاص موهوباً لكل إنسان وأبواب الفردوس مفتوحة لكل الراغبين في دخوله. وهذا هو سرّ السبت العظيم الذي تشكف الليتورجيا الأرثوذكسية لنا جزءاً منه، وهذا هو التفسير اللاهوتي لإيقونة القيامة.
المطران إيلاريون (ألفييف)، رئيس قسم العلاقات الكنسية الخارجية لبطريركية موسكو
عن “التراث السلافي الاورثوذكسي”