عندنا في إنجيل اليوم إنسان مديون لرجل غني كان عليه ان يدفع عشرة آلاف وزنة أي حوالى مئتي مليون ليرة لبنانية اليوم. الرجل الغني الدائن يمثّل الله، وعلاقتنا بالرب علاقة دين لأنه هو المعطي وإليه المنتهى. ولعلّ لفظة “الدَين” بالعربية مشتقة من الدين (بكسر الدال)، فيكون الدين بهذه الحال صدورا عن الله ورجوعا إليه.
يقارن متى البشير هذا الدَين العظيم الذي تسامح الله به ولم يلحّ عليه بدَين صغير، بدَين لرجل عليه مئة دينار، وجاء الدائن وحاول أن يخنقه، فيدعونا الى أن نتخلّق بأخلاق الله وألا نحاسب الناس.
استهلّ الإنجيليّ مقطعه هذا بقوله: “يُشبه ملكوتُ السماوات إنسانًا…”. ملكوت الله هو إذن هذا الوضع الروحي الذي نحن فيه والذي ليس فيه محاسبة بيننا وبين البشر. نعتبر أنهم جميعًا أبناء الله وأن العلاقات في ما بينهم هي علاقات غفران ومسامحة وعطاء بحيث لا نعامل الناس كما يعاملوننا ولو عاملونا بالسوء، ولكننا نعاملهم بالأخلاق الإلهية التي اقتبسناها من الاقتداء بالمسيح.
نحن، كما دعانا عيد التجلي منذ حين، مدعوّون الى أن نصبح آلهة. الذين تجلّوا على ثابور جديد يطلعون اليه كل يوم من أيام حياتهم. فالرسل على جبل ثابور استمدّوا نور الرب في نفوسهم وأجسادهم. الاقتداء بالمسيح يعني أن يصبح الانسان إلهًا بمعنى أنه يحيا بحياة الله ويتصرف بتصرف الله. المحبة والغفران والعطاء، كلها ممكنة لأن الله أحبّنا وأعطانا أن نحيا بمحبته.
في الأوساط المسيحية يتحدثون عن المحبة على أنها ميزة للدين المسيحي، ولكننا نريدها لأنفسنا لا للآخرين. أفلا نسمع الناس يقولون: المحبة جميلة ولكنها غير ممكنة، ونحن من لحم ودم، فكيف نحب أعداءنا؟ كيف نغفر؟ وكأن المسيحيين يندمون على انهم لم يبقوا يهودا، يندمون على “العين بالعين والسن بالسن”، يندمون على فوات الناموس القديم. اما الناموس المسيحي فيتغنّون به تغنيا، هذا اذا لم يرفضوه رفضا مطلقا. المسيحي لا يؤمن بالمحبة ناموسا يعاش. عندما نرفض الرحمة فنحن نعيد مسيحنا الى زمان العهد القديم كأنه لم يأت.
ماذا يصنع الغير؟ هذا شأن الغير. ماذا أصنع أنا؟ أنا أصنع ما هو في ناموسي، لأن ناموسي هو إلهي ولأني أريد أن أكون إلهيّا. المسيحية وُجدت لتُعاش فلنعشها. ولكن كيف تُعاش؟ كيف تُعاش ونحن لا نصلّي؟ كيف تُعاش ونحن لا نناجي المسيح؟ كيف تُعاش وديانتنا مجرّد مراسم ومواسم وليست حياة دائمة في القلوب؟
هذا الذي يسيء إليّ يسيء بالحقيقة الى نفسه. أنا لا ينالني شيء ولا يصيبني مكروه ولا يستطيع أحد شيئًا عليّ. لا تخافوا ممن يقتل الجسد بل خافوا ممن يستطيع أن يثير البغض في قلوبكم. فإذا دخل الحقد الى نفسك فأنت في الجحيم منذ الآن. الجحيم ليس مكانًا بعيدًا تحت الأرض، الجحيم في قلوب الناس. قلوب الناس سماء او جحيم. ليس فوق الغيم سماء. الله هنا في عيوننا، في قلوبنا. الناس يُبعدونه الى ما فوق الغيم لكي يؤجلوه، لكي يُرجئوا لقاءهم به. ولكننا نحن نريد أن يكون هنا، في اللحم والدم عوضًا عن أن يكون الشيطان في اللحم والدم. لا يستطيع أحد شيئًا عليّ لأني أنا للمسيح، نقيّ بالمسيح، حيّ بالمسيح. لذلك فإن المتعدّي عليّ هو المريض وأنا طبيبه. هذه هي المسيحية.
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
“رعيّتي”، العدد 34، الأحد 24 آب 2014