«إنّ الله نورٌ لا ظلام فيه» (١يوحنّا ١: ٥). في أرجاء الهيكل، نادى يسوع سامعيه قائلًا: «أنا هو نور العالم» (يوحنّا ٨: ١٢). هو النور الآتي إلى العالم لينير كلّ إنسان آتٍ إلى العالم، نور في شخصه، في طبيعته، في عمله، وفي صفاته. ما من أحدٍ يبكّته على خطيئة. لا ظلمة فيه البتة، والظلمة لم تدركه. ومن يتبعه لا يمشي في الظلام.
يعيش المسيحيّ في وسط جيل معوجّ وملتوٍ، له منطقه وحساباته في الربح والخسارة، في المقبول والمرفوض. ليست سيرة المسيحيّ دائمًا حسنة بلا لوم ولا عيب. يكفي أن يلتفت أحدنا يمنة ويسرة ليجد أنَّ هناك من يسقط أمام حجج هذا الدهر ومنطقه وما يحمله من قوّة إقناع، وأنَّ قسمًا كبيرًا همّه إرضاء الناس فيرتبك بأمور هذه الحياة وينسى مَن جنّده. يصير الكسل في الجهاد مفهومًا، والانغماس في الملذّات والتنعّم بها أمرًا طبيعيًّا. هل بات مقبولًا أن يشترك المسيحيّ في أعمال الظلمة غير المثمرة ضاربًا عرض الحائط نهيَ الرسول ونصحه «ولا تشتركوا في أعمال الظلمة… بل وبّخوها» (أفسس ٥: ١١)؟ هل صار معتادًا أن يكرِّم الربَّ بشفتيه، وقلبه مبتعد عنه، ويعلِّم «تعاليم هي وصايا الناس» (مرقس ٧: ٦-٧)؟ تسمّي المقاييسُ المادّيّة التمسكَ بالوصايا تزمّتًا أو تخلّفًا عن الحضارة، والتمسّك بالعقيدة تسمّيه تعصّبًا وهكذا.
يتكامل حديث الرسول عن «ثمر النور وأعمال الظلمة» (أفسس ٥: ٩-١١) مع حديثه عن»أعمال الجسد وثمر الروح» (غلاطية ٥: ١٩-٢٤). يُفهم من المقطعين أنّ الروح والنور لهما ثمر، لكن الجسد والظلمة لهما أعمال، وهي أعمال غير مثمرة لأنّها تعد الشرّير بالخيرات الكثيرة. هي أعمال ضارّة هادمة لا نفع فيها، إذ لا تعرف الإصلاح ولا البناء. علينا أن نفهم مشيئة الربّ وأنّ نسلك «كأبناء النور» (أفسس ٥: ٨).
«أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل، وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجًا وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ فِي الْبَيْتِ. فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (متى ٥: ١٤-١٦).
تطفئ الخطيئةُ النور الذي فينا. ليس المكيال الذي يطفئ سراج النور الداخلي سوى الخضوع للمقاييس المادّيّة في حياتنا الروحيّة. كثيرًا ما تقف حساباتنا البشريّة المادّيّة عائقًا أمام الإيمان، الأمر الذي يُفقد صلواتنا وطلباتنا حيويّتها وفاعليّتها. يشير المكيال أيضًا إلى حَجب النور باللذّات الجسديّة. صارت الإباحيّة حرّيّة، فيتحوّل الجسد إلى عائق للروح عوضًا من أن يكون مُعينًا لها في العبادة وفي تقديس كلّ عضو فيه.
انتشر وباء المقاييس المادّيّة في أوساط المسيحيّين، بات شفاؤه صعبًا لكنّه غير مستحيل. نستطيع بقوّة الله التي فينا أن نقوم ونعود طالبين الشفاء من أجل أن يسود الذهن على الجسد ويُرشده، ويُظهر من طريق الجسد ثمار التوبة والأعمال الحسنة. وها إنّ الشهود على كلّ ذلك يُمجّدون الله عندما يرَون اليوم
إنجيليًّا كان بالأمس عشّارًا، أو رسولًا كان مُضطهِدًا، أو لاهوتيًّا كان لصًّا، أو ابن الآب السماويّ مَن كان بالأمس يعيش مع الخنازير. لذلك قال الربّ لتلاميذه: «فليُضئ نوركم هكذا قدّام الناس لكي يرَوا أعمالكم الصالحة ويُمجّدوا أباكم الذي في السماوات» (متّى ٥: ١٦). لا يقول الربّ هذا لتلاميذه لكي يُظهِروا أنفسهم، بل لكي يتصرّفوا بطريقة لائقة مرضيّة لله.
أوقد المسيح النور فينا، أمّا استمرار اشتعاله، فيتحقّق عبر جهادنا نحن، عبر رفض الخضوع للمقاييس المادّيّة التي تحكم عالمنا. لن تقدر المصائب مهما عظمت على أن تعطِّل بهاءنا إن كنّا نسلك كأبناء للنور، فنكون حينها سببًا لتغيير العالم كلّه.