نشيد الأناشيد
والآن دعنا ندخل إلى قدس الأقداس، نشيد الأناشيد. إن تعبير “قدس الأقداس” يحمل معنى القداسة الفائقة. إن النص الكريم يعدنا خلال عنوانه “نشيد الأناشيد” بأن يعلمنا سر الأسرار.
من المؤكد أن هناك أناشيد أخرى كثيرة في التعاليم الإلهية الموحاة، وهي تعلمنا الكثير في طريق معرفة الله على فم داود، وإشعياء، وموسى وكثيرين غيرهم.
وهكذا نفهم من العنوان “نشيد الأناشيد” أنه كما أن أناشيد القديسين تفوق حكمة الأناشيد الدنيوية، بالمثل أيضًا فإن الأسرار المكنوزة هنا تفوق أناشيد القديسين. حقًا إن العقل البشري بحسب إمكانياته المحدودة لا يستطيع أن يكتشف أو يستوعب أسرار النشيد، إذ أنه يحسب اللذه الجسدية (أي الجنسية) رمزًا للحب. يعلمنا هذا السفر أن النفس تحتاج أن تفتش على الجمال الخفي للطبيعة الإلهية، وأن تحبه مثلما يميل الجسد لحب قريبه.
يليق بالنفس أن تُخمد العاطفة الجسدية حتى أنه حين تُطفئ كل عاطفة جسدية تتقد عقولنا بالعاطفة الروحية وحدها وتتمتع بالدفء خلال هذه النار التي جاء الرب ليلقيها على الأرض (لو 12: 49).
كاتب السفر
والآن وقد استفضت الحديث عن السامعين لهذه الكلمات السرائرية وكيف قد حان الوقت لتدبير نفوسهم لنبدأ بتفسير الكلمات الإلهية لسفر نشيد الأناشيد. لنبدأ حديثنا بدلاً له العنوان.
إن نَسب السفر لسليمان لم يأتِ مصادفة، وهذا النَسب يفيد بأن يُعد القارئ لاستقبال شيء عظيم ومقدس. فشهرة سليمان بالحكمة عظيمة وذات تأثير على كل أحد. لذلك فإن ذكر اسمه في مطلع السفر يزيد من توقعات القارئ لشيء عظيم يليق بمثل هذه الشهرة.
في فن الرسم نجد الألوان المختلفة وقد تآلفت معًا لتقدم لوحة فنية جميلة. ولكننا نرى أن الشخص الذي ينظر إلى الصورة التي رسمها الفنان مستخدمًا الألوان بمهارة لا يركّز نظره على الألوان بل على الإطار العام للوحة. هكذا الأمر بالنسبة لهذا السفر الماثل أمامنا،فعلينا ألا نهتم بمادة اللون (أي الكلمات) بل بالأحرى علينا أن نهتم بصورة الملك المعبَّر عنها بمفهوم الطهارة. إذ أن اللون الأبيض والأصفر والأسود والأحمر والأزرق أو أي لون آخر ما هو إلا هذه الكلمات بمعانيها الواضحة – فم، قبلة، مر، سلك، الأطراف الجسدية، المخدع، الخادمات… – وهكذا. إن الشكل الذي تكونه هذه الكلمات هو: البركة، الانفصال عن الشر، الاتحاد بالله، البعد عن الشر، وحب ما هو حقًا جميل. هذه المفاهيم تشهد بأن حكمة سليمان قد فاقت حدود الحكمة البشرية. ماذا يحيرنا أكثر هو أن سليمان يجعل الطبيعة البشرية تتنقى من الشهوات، ويعلمنا ذلك مستخدمًا كلمات مفعمة بالعاطفة المتقدة! إذ أن سليمان لا يتحدث عن ضرورة البعد عن انفعالات الجسد أو إماته أعضائنا التي على الأرض، أو أن نحجم عن كلمات العاطفة المتأججة، لكنه بالحرى يحث النفس أن تسعى للطهارة خلال كلمات تبدو أنها تحمل معنى عكسيًا، إذ أنه يشير إلى معاني نقية عفيفة خلال لغه حِسية ملموسة.
خلال مقدمة النص نتعلم شيئًا واحدًا: هؤلاء الذين دخلوا إلى أعماق أسرار هذا السفر ليسوا بشرًا بعد، بل قد تحولوا بالطبيعة خلال تعاليم الرب إلى ما هو إلهي بالأكثر. الله الكلمة قد شهد لتلاميذه بأنهم مميزون عن البشر. وقد جاء هذا التمييز حين قال لهم: “من يقول الناس إني أنا؟” (مر 8: 27)؟ يستخدم سفر النشيد كلمات ظاهرها يشير إلى التمتع باللذة الجسدية. ولكنها في الواقع لا تتضمن أي معنى غير طاهر أوغير لائق، بل هي تقودنا إلى فلسفة الأمور المقدسة خلال المفاهيم الطاهرة. إنها توضح لنا أننا لسنا بعد من لحم ودم ذي طبيعة بشرية لكنها بالحري تشير إلى الحياة التي نتطلع إليها عند قيامة القديسين، حياة ملائكية خالية من كل شهوة.
قُبلات فمه
بعد القيامة، يتحد الجسد – الذي صار في عدم فساد – مرة آخرى مع النفس. إن الشهوات التي تحارب جسدنا المائت الآن لن تكون بعد بل تسكن جميعها. وسيبطل النزاع بين الجسد والنفس. ولن تكون هناك بعد حرب الشهوات ضد ناموس العقل، حيث تهزم النفس وتصير أسيرة الخطية. حينئذ تتنقى الطبيعة من كل هذه الأشياء وتكون الروح واحدة (أي لا تعارض بين الجسد والروح) وسوف يبطل كل تدبير جسدي للجنس البشري. وهكذا فإن النشيد يحثنا على الرغم من أننا مازلنا في الجسد ألاَّ تكون أفكارنا جسدانية؛ بل بالحري علينا أن نهتم بالروح وحدها وأن ننسب كل مظاهر العاطفة في النص إلى صلاح الله الفائق كذبيحة طاهرة غير دنسة. لأن الله وحده هو عذب بالحقيقة، مشتهى الأمم ومستحق أن يُحَب. إن تمتعنا الحالي بالله هو نقطة البداءة لنصيب أكبر من صلاحه ويزيد من شوقنا إليه. وهكذا ففي أسفار موسى (خر 33: 11) يقول إن العروس أحبت العريس. كما تقول عروس النشيد “ليقبلني بقبلات فمه”. إن موسى قد خاطب الله وجهًا لوجه كما يشهد الكتاب (تث 34: 10) وهكذا ازداد شوقه إلى هذه القبلات بعد رؤيته لله. لقد بحث عن الله وكأنه لم يره قط. لذلك فهؤلاء الذين لديهم رغبة دفينة واشتياق لله فإن هذا الاشتياق لا يتوقف بل كلما تمتعوا بالله كلما اِزداد اِشياقهم تأججًا إليه.
إن الروح رغم اتحادها مع الله فهي لا تشعر بملء السعادة مطلقًا. كلما تمتعت بجماله زاد اشتياقها إليه. إن كلمات العريس روح وحياة (يو 5: 24)، وكل من التصق بالروح يصير روحًا. كل من التصق بالحياة ينتقل من الموت إلى الحياة كما قال الرب. وهكذا فالروح البكر تشتاق دائمًا للدنو من نبع الحياة الروحية. النبع هو فم العريس الذي تخرج منه كلمات الحياة الأبدية. أنه يملأ الفم الذي يقترب منه مثل داود النبي الذي اجتذب روحًا خلال فمه (مز 118: 131).
لما كان لزامًا على الشخص الذي يشرب من النبع أن يضع فمه على فم النبع، وحيث أن الرب ذاته هو النبع كما يقول: “إن عطش أحد فليقبل إليَّّ ويشرب” (يو 7: 37)؛ لذلك فإن الأرواح العطشانة تشتهي أن تضع فمها على الفم الذي ينبع بالحياة ويقول: “ليقبلني بقبلات فمه” (نش 1: 2).
من يهب الجميع الحياة ويريد أن الجميع يخلصون يشتهي أن يتمتع كل واحد بنصيب من هذه القبلات، لأنها تطهر من كل دنس.
اَعتقد أن الرب كان يوبخ سمعان الأبرص حين قال له: “قبلة لم تقبلني” (لو 7: 45). كان يعني بذلك: لقد كان يمكنك أن تبرأ من مرضك لو أنك انتزعت الشفاء بشفتيك. ولكن على الأرجح أن سمعان لم يكن مستحقًا للحب، إذ أن مرضه سبَّب له نموًا مطردًا في جسده، وقد ظل غير مشتاق لله بسبب مرضه. ولكن حينما تتطهر الروح ولا يعوقها بعد برص الجسد تبدأ في التفتيش عن كنز الصالحات. اسم هذا البيت الذي يضم الكنز هو القلب. من هذا الكنز يمتلئ الثديين بغنى اللبن المقدس الذي به تتغذى الروح وتنتزع البركة بما يوازي إيمانها. لذلك تهتف الروح: “لأن حبك (أي ثدياك) أطيب من الخمر” ويشير بالثدي إلى القلب. ولا نخطئ إذا حسبنا أن القلب هنا ما هو إلاَّ قدرة الله الخفية السرية. من الأرجح أن نعتبر أن الثديين هما عمل الله القوي من أجلنا الذي به يشبع حياة كل منا بما يناسبه.
إن فلسفة سفر النشيد تعلمنا بطريق غير مباشر درسًا آخر ألا وهو إنَّ فهمنا للأمور له شقان: مفهوم جسدي ومفهوم روحي. كما يقول الحكيم في سفر الأمثال، “وتجد معرفة الله” (أم 2: 5). هناك نوع من التناظر بين أعمال الروح وأعمال الجسد الحسية، وهذا ما نتعلمه من هذا النص. إننا نميز الخمر واللبن عن طريق حاسة التذوق، بينما الحقائق الروحية تُدرك خلال قدرة الروح على الفهم والتعقل. إن القبلة نتيجة لحاسة اللمس حين تتلامس شفاة شخصين. على الجانب الآخر هناك نوع آخر من التلامس الروحي للكلمة والعمل يتم بطريقة روحية غير جسدية. كما يقول معلمنا يوحنا: “… الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة” (1 يو 1:1).
بالمثل فإن رائحة المسيح الزكية لا نشتمَّها جسديًا، ولكن خلال قوة روحية غير مادية، أي بقوة الروح. لذلك تسترسل عروس النشيد في آياته الأولى قائلة: “لأن حبك أطيب من الخمر. لرائحة أدهانك الطيبة اسمك دهن مهراق.” [ع1-2].
اللبن الروحي أفضل من خمر حكمة العالم
ما تشير إليه هذه الكلمات لا يُستهان به. فإنه بمقارنة التمتع بلبن الثديين المقدس والتمتع بشرب الخمر، أظن أننا نتعلم أن الحكمة البشرية والعلم وقوة الملاحظة وفهم الأمور المبدعة… كل ذلك لا يضاهي الشبع الروحي بالتعاليم الإلهية في بساطته. إن اللبن طعام الأطفال يمنحه الثديان، بينما الخمر الذي يمنح القوة والدفء هو متعة لمن هم أكثر نضوجًا واكتمالاً. ولكن على الرغم من ذلك فإن حكمة العالم لا تضاهي التعاليم الطفولية للعالم الروحي المقدس.
وهكذا فإن الثديين المقدسين أفضل من الخمر البشري، ورائحة المسيح الزكية لهي أطيب من أي عطر آخر.
رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب
يبدو لي أن ذلك يعني ما يلي:
نحن نفهم أن العطور تمثل الفضائل المختلفة: الحكمة، العدل، ضبط النفس، الجَلَد… وهكذا. إذا ما تعطرنا بهذه العطور، كلٌّ قدر استطاعته واختياره فيكون لكل منَّا رائحة طيبة خاصة، لواحد حكمة أو ضبط للنفس، لآخر جَلَد أو عدل أو أي فضيلة أخرى. آخر يمكن أن يكون له رائحة طيبة داخليًا (داخلية) نتيجة لامتزاج كل هذه العطور. ولكن كل هذه معًا لا تقارن بالفضيلة السماوية الكاملة. كما يقول حبقوق النبي: “جلاله غطى السموات” (حب 3:3). هذه هي حكمة الله، عدل الله، حق الله وما إلى ذلك بصورته المطلقة. لذلك يقول إن رائحة الدهن السماوي تبهج النفس بما لا يقارن بأي نوع آخر من العطور المتعارف عليها.
الله لا يُحدّ باسم
يعود عريس النفس مرة أخرى ليقدم فلسفة أكثر سموًا، ويوضح أن القوة الإلهية لهي فائقة تمامًا، لا يمكن إدراكها بالمفاهيم البشرية. يقول النص: “اسمك دهن مهراق” [ع3]. يبدو لى أن هذه الآية تشير إلى الآتي: إن الطبيعة (الإلهية) غير المحدودة لا يمكن حصرها بدقة في اسم؛ بل فوق ذلك فإن كل مقدرة على الفهم وكل صيغة للكلمات والأسماء مهما بدت عظيمة وتناسب مجد الله فهي غير قادرة على إدراك حقيقته. ولكننا نلقي الضوء ونقتفي آثار ما نجهله متحسسين الطريق بكلماتنا، وأيضًا بالمناظرة لما نلمسه ندرك الأمور غير مدركة. ومهما كان الاسم الذي نختاره لنُعبر به عن رائحة المسيح الذكية فنحن لا نستطيع أن نُعبر عن قدر هذه الرائحة، ولكننا إنما نكشف عن مجرد أثر بسيط للرائحة المقدسة باستخدام اصطلاحاتنا اللاهوتية.
إذا ما سكبنا عطر من إناء يصعب أن نتعرف على طبيعة هذا العطر. ولكن إذ يتبخر الأثر البسيط من العطر المتخلف في الإناء نستطيع أن نكِّون فكرة عن العطر الذي سُكب منه. وهكذا نعلم أنه أيًا كان العطر المقدس في جوهره فهو يفوق كل اسم وفكر.
حقًا إن العجائب التي نشاهدها في الكون تعطي مادة للمصطلحات اللاهوتية التي بها ندعو الله حكيمًا، قديرًا، صالحًا، مقدسًا، مباركًا، أبديًا، ديانًا، مخلصًا وهكذا. كل ذلك يعطي دلالة بسيطة عن نوعية رائحة المسيح وخاصيتها حيث تحتفظ الخليقة بآثار الرائحة المقدسة من خلال عجائبها المنظورة كما في مثل إناء العطر. “لذلك أحبتك العذارى” [ع3]. هنا تذكر العروس لماذا مالت العذارى إليه وأحبته. من يستطيع ألا يحب مثل هذا الجمال طالمًا له العين الثاقبة التي تستطيع أن تُدرك مدى جماله؟ إن الجمال الملموس لهُو عظيم، ولكن ما هو بالتأكيد أعظم منه هو الجمال الذي نلمحه بمجرد النظره الخاطفة لهيئته الخارجية.
الحب للناضجين!
لا تثير الشهوات الجسدية الأطفال، لأن الطفل غير قادر على الإحساس بها، وهي أيضًا لا تمثل مشكلة بالنسبة للشخص المتقدم في العمر. هكذا الأمر أيضًا بالنسبة للجمال الإلهي: فإن الطفل الذي تهزه كل ريح تعليم والإنسان المتقدم في العمر الذي قد قارب الموت كليهما غير قادرين على الشهوة الجسدية.
إن الجمال الإلهي لا يحرك مشاعر مثل هؤلاء، ولكنه يحرك مشاعر تلك الروح التي قد تجاوزت مرحلة الطفولة وقد بلغت زهرة شباب النضوج الروحي. إذ أن مثل هذه الروح يسميها السفر “العذارى” [ع3]؛ إذ ليس بها أي علامة من علامات تَقدُّم العمر من بقع أو تجاعيد أو ما شابه ذلك؛ فهي لا تفتقر إلى الإدراك الحسِّي لمرحلة الطفولة ولا هي واهية بسبب الكهولة. مثل هذه الروح تعيش في طاعة لأعظم وصية، ألا وهي أول وصية في الناموس أن تحب هذا الجمال الإلهي من كل قلبك ومن كل قوتك (تث 6: 5). إن العقل البشري غير قادر على إيجاد أي وصف، أو تشبيه أو تعبير يناسب هذا الجمال. لذلك فقد نمت تلك العذارى في الفضيلة، وقد دخلن حجال العرس في الوقت المناسب ليكتشفن الأسرار الإلهية.
الآن قد أحببن جمال العريس وخلال هذا الحب دنون منه. لأنه العريس الذي يكافِئ من يحبونه ويقول على لسان الحكيم: “أحب الذين يحبونني”، “عندي الغنى والكرامة” (إن العريس ذاته هو هذا الغنى) “وأملأ خزائنهم” (أم 8: 17، 21). لذلك تشتاق الأرواح إلى عريسها الحيّ الذي لا يموت وتتبع الرب الإله كما هو مكتوب (هو 11: 10). أنهم يحبونه، ويمشون وراءه بسبب رائحته الذكية، أنهم يتقدمون إلى ما هو أمامهم وينسون ما هو وراء. “اجذبني وراءك فنجري” [ع4].
هؤلاء الذين لم يبلغوا بعد كمال الفضيلة وهم بعد أحداث يقدمون وعدًا بأن يسعون نحو الهدف الذي يمثله الرائحة الذكية. لأنهم يقولون، “اجذبني وراءك فنجري”. أما الأرواح الأكثر كمالاً فقد ركضت بأكثر جدية وحققت الهدف فعليًا من هذا السير وقد استحقت الكنز المختزن. إذ تقول: “أدخلني الملك إلى حجاله” [ع4]. لقد اشتهت أن تلمس ما هو طيب بشفتيها وقد لمست الجمال بمقدار قوة صلاتها. فقد صلَّت [ع2] لتستحق قبلة خلال الاستنارة التي يمنحها إياها الكلمة).
والآن خلال ما حققته بلغت ذهنيًا إلى عمق آخر للأسرار، لكنها تصرخ معلنة أنها لم تدرك إلا مدخل الصلاح. إن قبلة العريس قد منحتها استحقاق باكورة نِتاج الروح، فتقول أنها تبحث عن أعماق الله في عمق أقداس الفردوس، وكما قال معلمنا بولس الرسول العظيم: “ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن” (2 كو 12: 4).
الآن نراه يكشف الحديث عن دور كنسي، لأن أولئك الذين أرشدتهم النعمة وقد صاروا شهودًا للكلمة، لا يكتموا الحق محتفظين به لأنفسهم، بل بالأحرى يبشرون به آخرين ممن لحقوهم. لذلك تقول العذارى للعروس التي تمتعت أولاً بالصلاح إذ التقت بالكلمة وجهًا لوجه واستحقت أن تتعرف على الأسرار الخفية: “نبتهج ونفرح بك، نذكر حبك أكثر من الخمر” (نش 1: 4).
لأنك تحب ثدييّ الكلمة أكثر من الخمر فسوف نتشبه بك، ونحب ثدييك أكثر من الخمر البشري، لأنه خلالهما يتغذى الأطفال في المسيح يسوع.
حتى نوضح الغرض من هذه الفقرة علينا أن نركز اهتمامنا بالآتي: إن يوحنا الحبيب الذي اتكأ على صدر الرب أحب ثدييّ الكلمة (يو 13: 25)؛ وإذ وضع قلبه بقرب منبع الحياة تمتع بامتصاص الأسرار الخفية التي في قلب الرب كما يمتص الإسفنج.
يعطينا يوحنا الثدي الغني بالكلمة فنمتلئ من الصلاح الذي أخذه يوحنا من منبع الصلاح، معلنًا عن الكلمة الأبدي. لذلك يحق لنا الآن أن نقول: “نذكر حبك أكثر من الخمر” إذا ما صرنا كالعذارى ولم نعد أطفالاً في أذهاننا تحت نير نوع من التفاهة الطفولية، وإذ لم نتدنس بعد بالخطية فندنو من الموت في كهولتنا. لذلك دعنا نحب فيض التعليم الإلهي لأنهم “بالحق يحبونك” [ع4]. هذا هو التلميذ الذي كان يسوع يحبه، والمسيح هو الحق. ينسب النص هنا للمسيح اسمًا أكثر جمالاً وملاءمة للرب، أفضل من داود النبي الذي قال: “أن الرب مستقيم” (مز 9: 15). إن الرب يسمى بالحق في هذا النص. لأنه يجعل المعوج مستقيمًا. ليصير كل المعوج مستقيمًا والعراقيب سهلاً (إش 40: 4) بنعمة ربنا يسوع المسيح الذي له المجد دائمًا أبديًا آمين.
يتبع…..
القديس غريغوريوسالنيصي
www.orthodoxonline.org