موضوع الحياة الأبديّة مثار تسآل كبير! ما معنى الحياة الأبديّة؟ ما معنى أن تكون لنا الحياة الأبديّة؟ لِمَ الحياة الأبديّة أعظم العطيّة؟ ألأنّ الموت يقطع حبل الحياة على الأرض، تكتسب الحياة الأبديّة قيمة؟ هل الأبديّة مسألة زمن؟ إذا ما كان الموت توقُّفًا عن الحياة، والموت يأتي، بالأكثر، بعد معاناة، فأيّة قيمة نلقى في امتداد فسحة العمر، أي، عمليًّا، في استمرار المعاناة؟! لِمَن يكابد آلامًا مبرِّحة، جسديّة أو نفسيّة، يبدو الموت رحمة! في خبرة القوم، يشتهون الحياة إذا ما كانت لها حلاوات؛ أمّا إذا كانت مغمّسة بالمرارة، فإنّهم يشتهون الموت! فإذا ما كانت الحياة الأبديّة قضيّة وقت، فليست لها، في ذاتها، قيمة، أبدًا، إذًا!.
لذا، لا بدّ للحياة الأبديّة المشتهاة، من أن يكون لها معنى آخر! أتراها تجمع ما بين الزّمن الّذي لا يتوقّف، وحالة فردوسيّة ما؟ ما طبيعة مثل هذه الحالة الفردوسيّة؟ أحالة غبطة هي؟ ما معنى ذلك؟ لو حكيتُ مسرى البَشَرة ما كنتُ لأُطيق ولا حالة من حالات المسرّة، ههنا، أن تدوم إلى الأبد! أنّى تكن الحالة بهجة فإنّها لا تلبث، بعد حين، أن تصبح مملّة أو ثقيلة أو تافهة! حال الخطيئة تفرض التّبدّل، ولا أعرف، هنا، حالة إلاّها! مباهج العمر تطيب نكهتها، لا في ذاتها، بل بعد أن تكون النّفس قد خبرت الضّيق وكابدت المعاناة وذاقت المرّ! ضياء الجَلَد يختبره الإنسان بهيًّا، بعد أن يكون قد قاسى ثقل الغيوم الملبّدة المكفهرّة! إذًا، ليس لشيء هنا، على الأرض، قيمة بالمطلق! كلّ ما تحت الشّمس باطل!.
عمّا تُرى الحياة الأبديّة تتمخّض، والحال هذه؟ لِمَ نلتمسُها! لِمَ نسعى إليها! ما هي الحياة الأبديّة؟.
الحياة الأبديّة حياة من نوع جديد بالكامل، قياسًا بالحياة البشريّة. ليست المسيحيّة، في عمقها، ديانة جديدة! المسيحيّة حياة جديدة! كلّ ديانات الأرض إله أو آلهة، من ناحية، وأقوام، من ناحية أخرى! بين هذا القطب وذاك مسافة لا تُردَم، ولو كانت هناك علاقة أو علاقات تتوسَّم خدمة الإنسان، أو حِفْظَه وحمايتَه، أو إصلاحَه وتحسينَ أحواله أو تهذيبَه وضبطَه. العلاقة، إذًا، عن بُعد! يُعرف الإله، أو الآلهة، بما يبدر منه (أو منها). لذا يبقى الإله، في ذاته، مجهولاً، غريبًا؛ يخاطِب الإنسان من غير فلك، من حيث لا طاقة لهذا الأخير للوصول إليه. وقد لا يكون الغريبُ سوى بدعة ابتدعتها بنات أهواء النّاس! هذه هي الأوثان! ما دام هناك إمكان كشف يتكشَّف للإنسان، فثمّة تفسير لهذا الأخير، بإزاء هذا الكشف، لا محالة! إذًا، لا ما يمنع البتّة، والحال هذه، أن يتعاطى الآدميّون الاختلاق، أن يكون فهمهُم، لما ينتمي إلى الفائقات، أدنى إلى الوهم والإيهام منه إلى الواقع الحقّ! يمسي الإله، أو الآلهة، على صورة مَن يقتنعون به، أو بها! وتمسي حتّى الفراديس تجسيمات أشواق ورغبات يحتاج إليها الإنسان، كيانيًّا، لكي لا يضنيه القلق، فيقع ضحيّة اليأس، ولكي يستمرّ في الحياة! ما الصّحيح وما الخطأ؟ كيف نميِّز؟ ما دام الإنسان هو المتلقِّي فلا معيار ثابتًا لما هو حقّ لديه، منه هو، ولا حجّة أكيدة!.
المسيحيّة، في هذا السّياق، وفي إطار المقاربة الدّينيّة، بعامّة، لا انبثقت من دين، ولا هي دين، بالمعنى الموضَح، أعلاه، للدّين! لم تأتِ المسيحيّة من المسيح، أي من الإله المتجسِّد، بل هي إيّاه! نحن، في المسيحيّة، لا نتعاطى نظمًا وشرائع من نوع ما! نحن نتعاطى المسيح عينه! طبعًا، عندنا وصيّة، ولكن لا مسافة، في تعاطينا لها، بين المسيح وبينها! بكلام آخر، نتعاطى المسيح في الوصيّة، ولا نتعاطاها كما لتبلِّغنا إلى المسيح، كأنّها، وجوديًّا، في مكان، والمسيح في مكان آخر! قد اعتمدنا بالماء والرّوح! هكذا بدأنا ونبدأ! نزولنا في جرن المعموديّة بَثّ فينا روحَ الله وأَتحدَنا بالمسيح! أنتم الّذين بالمسيح اعتمدتم المسيح قد لبستم! بالمعموديّة دخلنا في سرّ الله؛ وُلدنا لحياة جديدة! والحياة الجديدة هي إيّاه المسيح! هو الحياة والمحيي في آن معًا! أنا هو الحياة؛ قال! وبذاته أحيانا! خذوا، كلوا، هذا هو جسدي؛ قال! الجسد، في العبريّة، هو الشّخص عينه! لذا، لا فرق بين أن تقول: أعطانا جسده، أو أعطانا روحه، أو أعطانا حياته، أو أعطانا ذاته!.
قلتُ: بالمعموديّة دخلنا في سرّ الله! ليس السّرّ ما هو مخفيّ بإزاء ما هو ظاهر! السّرّ، من جهة، هو ما يفوق إدراك البشر؛ ومن جهة أخرى، هو الله، غير المنظور، والفائق الإدراك، متجلِّيًا في المنظورات والمدرَكات! جسدُه يُمَدّ خبزًا، ودمُه خمرًا وماءً! إلى ذلك الماءُ مركبةُ روحٍ، وكذا الزّيت! كلّما صلّينا وعلامَ صلّينا نمدّ حضور المسيح غير المحسوس في المحسوسات! نجدنا على أرض الأسراريّات! لذا نصلّي لندخل في عِشرة الله، ونجعل الكلّ هيكلاً لله، إلاّ الخطيئة، لأنّ الخطيئة نقضٌ لله، ولا مستقَرَّ لبَرَكة الله فيها!.
على هذا، كانت المسيحيّةُ المسيحَ فينا، معنا، وفيما بيننا! وكانت، بكلام آخر، حياتَه فينا! هكذا نعرف المسيح، أي هكذا نحبّه، لأنّ معرفتَه محبّتُه! هذه، بالذّات، هي الحياة الأبديّة، أن يعرفوك أنت الإله الحقيقيّ وحدك وابنك يسوع المسيح!.
الحياة الأبديّة، إذًا، هي حياة الله! حيٌّ هو الله، وهذه حياتُه! فإذا ما أُعطينا الحياة الأبديّة، يكون الله قد أعطانا حياته! أي بتنا شركاء فيها! كالشّمعة تضيء ولا تنقص! لهذا، بالضّبط، الحياة، موضوع الكلام، أبديّة، لأنّها حياة الله لا لأنّها تدوم، زمنيًّا، إلى ما لا حدّ له! حياة الله لا تخضع لزمن! هذه حياة من نوع آخر جديد علينا بالكامل! وحده الله أزليّ أبديّ! والأبديّ غير مخلوق! ما نُعطاه، إذًا، غير مخلوق! حياته غير مخلوقة! هذا يضعنا أمام واقع فذّ: حياة الله غير المخلوق تصير حياتنا، نحن، مخلوقات الله! غير المخلوق يقيم في المخلوق! أنا المخلوق أصير واحدًا والله غير المخلوق! الوحدة هنا تكون بلا اختلاط ولا تشويش! الحياة الأبديّة لا تبتلع حياتي في طبيعتي البشريّة، ولا تُحدث تعديلاً في جوهرها، أنّى يكن، ومع ذلك تقيم فيها، تتّحد بها، في كامل بشرتها؛ تصير لها، في داخلها، في عمقها، خاصّيّة جديدة، كَمِنْها! أبقى أنا مَن أنا والله مَن هو! ولا أقول هنا رغم ذلك نتّحد، بل في عمق هذه الحقيقة الكيانيّة نتّحد! كيف؟ بالمحبّة! بالله! بروح الله! هو المبادِر! نحبّه لأنّه هو أحبّنا أوّلاً! ونحبّه بالمحبّة الّتي هو أحبّنا بها أوّلاً! يسكبها فينا فنتّحد فيها به! به نأتي إليه! نقيم فيه بذاته الّتي استقرّت فينا! هكذا نصير وإيّاه واحدًا!.
الحياة الأبديّة، على هذا، فيضُ اللهِ فينا محبَّةً! إلى الحياة الأبديّة توقُ البشريّة، منذ البدء، لأنّ الإنسان قلب! لذا ما كانت إنسانيّة الإنسان لتتحقّق إلاّ بالحبّ! جوهر الحياة الأبديّة المحبّة، والمحبّة، لدينا، هي الله فينا، لذا بالمحبّة نقتني قوى الله المشبعة بالمحبّة برمّتها! متى قلنا: “الله”، قصدنا جوهر الله و/أو شخص/أقنوم الله (آبًا و/أو ابنًا و/أو روحًا قدسًا)، و/أو قوى الله! إذًا، في المحبّة نقتني قوى الله، أي الله، ويكون شخص الله حاضرًا، مقيمًا فينا، بالمحبّة، متّحدًا بنا، متمايزًا عنّا، في آن معًا! هذا يجعلنا نتألّه، نصير آلهة، بقوى الله! نصير من الله، من معدن نور الله، أو من الله كنور، آلهةً بالنّعمة، بكلام آخر، ما يحقّق فينا قولة الله: أنا قلتم إنّكم آلهة وأبناء العليّ تُدعَون!.
على هذا، تصير لنا، بعطيّة الله، طبيعة بشريّة متألِّهة بالنّعمة الإلهيّة! لهذا، تمامًا، كان تجسّدُ ابن الله! لم يصر الله إنسانًا لمجرّد أنّه أراد أن يخلِّصنا من خطايانا! هذا كان قادرًا أن يحقِّقه دون أن يتجسّد! هذا فَعَله، أي تجسَّد، ليوحِّد، في جسده، بالحبّ، الإله والإنسان! وإذ مدّ هذا الحدث الكونيّ الكيانيّ، بالرّوح القدس، لبني البشر، أَوجَد ذرّيّة بشريّة متألّهة، أو، عمليًّا، بشريّة إلهيّة، صار هو لها بمثابة آدم جديد! هذا مآل الخلاص، وإلاّ لا قيمة لخلاص، أو يبقى الخلاص ناقصًا، مشروعًا ناقصًا!.
في الحياة الأبديّة المُسبَغة على الإنسان، إذًا، بات غيرُ المخلوق يعمل في المخلوق. لا زلنا خاضعين للزّمن، ونبقى، لأنّ الزّمن خاصّيّة المخلوق؛ لذا يعمل غير المخلوق فينا زمنيًّا، ما يجعلنا ننمو في النّعمة والقامة إلى الأبد! تجري من بطنه، أبديًّا، أنهار ماء حيّ! للإنسان، والحال هذه، أبديّتان، واحدة إلهيّة يُعطي فيها الله نفسَه للإنسان، على قدر طاقة هذا الأخير على الاستيعاب؛ وأخرى بشريّة ينمو فيها الإنسان، في محبّة الله، إلى ما لا حدّ له؛ ما يجعله يسير من مجد إلى مجد أسنى، ومن بهاء إلى بهاء أشدّ، ومن ذهول إلى ذهول أكبر، ومن تسبيح إلى تسبيح أنقى، ومن شكران إلى شكران أرقى، ومن سلام إلى سلام أعمق، ومن فرح إلى فرح أعظم!.
هذه هي الحياة الأبديّة؛ هذا هو ملكوت السّموات؛ هذه هي السّكنى في الله؛ هذه هي سكنى الله فينا؛ هذا هو قلب الله مشرَّعًا لبني البشر؛ هذه هي سيادة المحبّة!.
هذا ما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولا خطر على بال إنسان، ما أعدّه الله للّذين يحبّونه! تبارك الله!.
الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي، دوما – لبنان
عن “نقاط على الحروف”، الأحد 02-11-2014
الحياة الأبديّة!.