تكثر في العهد القديم المفردات التي تشير الى توبة الإنسان، فالتوبة هي “عودة الى الرب”، و”تراجع عن طريق الشر والخطيئة” و “سلوك طريق الخير”، وهي أيضا “البحث عن الله” و “التماس وجهه” و “إعداد القلب له” و”الاتضاع أمامه”… والله هو التواب دائما والحاضر في كل وقت لاستقبال الإنسان التائب، ذلك أن الله هو المبادر الى دعوة الإنسان الذي يلبي نداء الله او يرفضه بكامل حريته التي وضعها الله فيه. التوبة تتطلب بدون ريب إيمانا راسخا بالله المخلّص وثقة وطيدة بأنه وحده القادر على بث الحياة في الإنسان الى الأبد.
لقد ترافقت التوبة في العهد القديم بالكثير من الممارسات والعبادات المختلفة. فكان الناس يقررون أصواما واعترافا جماعيا بالخطايا التي ارتكبوها لكي يتحنن الرب عليهم فيغفر لهم: “وصاموا في ذلك اليوم وقالوا هناك قد خطئنا الى الرب” (1 صموئيل 7: 6). كما كان البعض يقوم بتمزيق ثيابه ولبس المُسوح وافتراش الرماد وحلق رؤوسهم وإطلاق الصرخات والتنهدات والمراثي والتضرعات، او يقدمون ذبائح تكفيرية… وفي هذا قال أشعيا النبي: “في ذلك اليوم يدعو السيد رب الجنود الى البكاء والنحيب والقرع والتحزم بالمِس” (22: 12 وأيضا حزقيال 27: 31-32). غير أن الأنبياء نبّهوا الى خطورة الاكتفاء بالممارسات الطقسية وبالمظاهر الخارجية المرافقة لفعل التوبة، وطلبوا الى الشعب السعي الى تحوّل حقيقي للقلب وتغيّر في السلوك ومناهج الحياة.
فالنبي عاموس ينتقد كثرة الطقوس والاحتفالات الدينية التي يقيمها الشعب من دون أن يفيده ذلك بالاقتراب من الله: “لقد أبغضت أعيادكم ولم تطِب لي احتفالاتكم” (5: 21). وفي مكان آخر يقول الرب: “ولم ترجعوا اليّ” (4: 6)، مع العلم أن النبي يعدد أفعالهم الدينية والتزامهم تطبيق واجباتهم العبادية من صلوات وذبائح وتقدمات… رضى الله، اذاً، ينزل على الشعب، بحسب عاموس، عندما يسعى الناس الى إحقاق العدالة الاجتماعية وإتمام البر والاهتمام بالفقير… هكذا، تكون الترجمة الحقيقية للآية “اطلبوا الرب فتحيوا” (5: 6). لأن التوبة تفترض تَبَدُلا في السلوك، لا مجرد فروض عبادات طقسية.
أما النبي هوشع فيستعمل لفظ “الارتداد” عند كلامه عن خطيئة الشعب: “إن شعبي تشبث بالارتداد عني” (11 :7)، فتكون التوبة هي الارتداد عن الارتداد او الشفاء منه: “أشفيهم من ارتدادهم وأحبهم بسخاء” (14 :5). والنبي هوشع يصوّر علاقة الله بشعبه بعلاقة الزوج بزوجته التي تخونه بشكل دائم، ولكنه هو يقبل توبتها في كل مرة تأتي اليه معلنة عودتها. ولذلك يكون الابتعاد عن الله بمثابة زنى: “اعمالهم لا تدعهم يتوبون الى إلههم لأن روح زنى في وسطهم ولم يعرفوا الرب” (5 :4)، أما العودة اليه فهي نتيجة خبرة خلاصتها أن الانسان يكون بحال أفضل مع الله: “لأني كنتُ حينئذ خيراً من الآن” (2: 9). واخيراً يدعو النبي هوشع الشعب الى العودة الى الله بواسطة أعمال البر والعدل، لا بواسطة الفرائض الجافة: “فإنما أريد الرحمة لا الذبيحة، معرفة الله اكثر من المحرقات” (6: 6).
والنبي أشعيا ينتقد اتكال الشعب على العبادات من دون توبة حقيقية تتمثل في السعي الى العدالة الاجتماعية، فيقول: “ما فائدتي من كثرة ذبائحكم يقول الرب؟”. ويطلب الرب بالمقابل: “تعلّموا الإحسان والتمسوا الحقّ، قَوِّموا الظالم وانصِفوا اليتيم وحاموا عن الأرملة”، عندها فقط “لو كانت خطاياكم كالقرمز تبيّض كالثلج ولو كانت حمراء كالأرجوان تصير كالصوف” (1 :11-20). التوبة والعودة الى الله تفترض، اذاً، عودة الى الفقير والمحتاج. التوبة شرطها الالتفات الى الإنسان المعذّب.
يتحدث النبي إرميا عن اهتداء القلب إلى الله. والقلب، في مفهوم العهد القديم، ليس مكان العاطفة والهوى بل هو مركز العقل والذهن والمعرفة والإرادة الصلبة التي لا تتزعزع. ولهذا، تكون التوبة القلبية جذريّة ينخرط فيها الانسان بجملته لا جزءاً منه. والمبادرة هي دائماً لله الذي يدعو كل البشر الى العودة اليه، ولكن جواب الإنسان هو الذي يحدّد مصير هذه الدعوة. فإرميا النبي يقول على لسان افرائيم: “أرجعني فأرجع، فإنك أنت الرب إلهي. بعد ارتدادي ندمت” (31: 18-19). أما بالنسبة الى القلب فالنبي نفسه يقول على لسان الرب: “وأعطيهم قلباً ليعرفوا أني أنا الرب، ويكونون لي شعباً وأكون أنا لهم إلهاً، لأنهم يرجعون اليّ بكل قلوبهم” (24: 7). وحزقيال النبي يشدّد بدوره على أهمية القلب، ويدعو الى صنع “قلب جديد”، والمقصود “إنسان جديد” طاهر من الآثام والخطايا: “انبذوا عنكم جميع معاصيكم التي عصيتم بها واصنعوا لكم قلباً جديداً وروحاً جديداً” (18 :31).
نشرة رعيتي
الأحد 25 شباط 2001، العدد8