الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس
بحسب تعليم آباء الكنيسة القديسين ، التخيل هو أحد قدرات النفس التي تلعب دوراً مهماً في عمل وتكون الأهواء. إنه يشكل صورة شخص أو شيء ما داخلنا، ثم يثير اللذة الحسية لكي تأسر نوسنا، وبمجرد أن نقع في الأسر فإننا نرتكب الخطيئة.
ينبغي علينا بالتالي أن ندرس الدور المهم للتخيل والخيال في ارتكاب الخطايا، وأيضاً مدى أهمية التحرر من الخيال لكي نحيا حياة مسيحية. هذا هو أحد المواضيع الرئيسية للتعليم النسكي في الكنيسة الأرثوذكسية. يساعدنا الآباء القديسون، كخبراء في الطريقة النسكية للحياة، على رؤية هذه المسألة بوضوح.
1- المصطلحات المستعملة من قِبَل الآباء القديسين
لم يبدأ الآباء القديسون، الذين اهتموا بهذا الموضوع وكتبوا عنه، بعمل بحث نفسي أو بمحاولة دراسة عالم الإنسان الداخلي بطريقة علمية. نحن نعلم من تعليم الكنيسة الأرثوذكسية أن الآباء لم يكونوا أكاديميين، لكنهم كانوا رعاة لشعب الله. لقد عرفوا من الخبرة كيف تعمل نعمة الله في البشر.
لقد كان الآباء القديسون خبراء في حالة نفس الإنسان بعد حادثة السقوط المدمرة، وبالتالي تعلموا ما هو شكل النفس وكل الحالة الداخلية للإنسان عندما تجددت بنعمة الله. لم تكن ملاحظاتهم عن موضوع الخيالات والتخيل مدفوعة ببحث علمي في علم النفس، ولكن بخبرتهم الشخصية خلال الروح القدس. لقد كان هدفهم هو قيادة الناس للخلاص. لقد كانوا واعين بالطريقة التي بعمل بها الخيال والتخيل في الإنسان الساقط وفي الشخص الروحاني والملهم بواسطة الروح القدس.
فعلى سبيل المثال، عندما كان الآباء القديسون يستعملون مصطلحات فلاسفة وعلماء عصرهم، فإنهم لم يكونوا يقبلون آراءهم بصورة كاملة. يكتب القديس غريغوريوس بالاماس قائلاً: “لو أن أحد الآباء يعبر عن شيء ما بنفس الطريقة التي يعبر بها الذين هم من خارج، فهذه مجرد مسألة كلمات، أما من جهة المعاني فيوجد فرق كبير. بحسب بولس، يقتني الآباء فكر المسيح، على حين أن الذين هم من خارج يتكلمون بفهم بشري إن لم يكن مما هو أسوأ من ذلك أيضاً“. يستحق هذا النص أن ننتبه إليه. إنه يُظهر أنه على الرغم من أن بعض الآباء استعمل نفس المصطلحات التي استعملها الفلاسفة، إلا أنه يوجد فرق كبير بينهم. لقد تكلم الآباء القديسون، بنوسهم الطاهر، من إعلان، على حين تكلم الفلاسفة من فهمهم الخاص ومن تأملهم البشري الشخصي.
إنني أذكر ذلك لأنه ينبغي علينا، عندما نتحدث عن الخيال أو التخيل، أن نعطي هذه الكلمات نفس المعنى الذي يعطيه لها علماء النفس والمحللون النفسيون المعاصرون المهتمون بهذا الموضوع. يوجد فرق شاسع بين الناس أصحاب خبرة الروح القدس، وأولئك المهتمين بالخيال والتخيل بطريقة متمركزة حول الإنسان. حتى لو كانوا في بعض الأحيان يستعملون نفس المصطلحات، إلا أنها تشير إلى أمور مختلفة.
يكتب الشيخ صوفرونيوس ساخاروف عن الخيال والتخيل قائلاً: “إنني لا أستطيع أن أرجو أن أعالج موضوعاً بهذه الصعوبة وهذا التعقيد بطريقة مشبعة. حيث أن مهمتى الرئيسية هي أن أقدم للقارئ عرضاً لخبرة محددة وملموسة، سوف أنحصر في فحص الآراء والمفاهيم الموجودة هذا اليوم في الجبل المقدس، هذه الآراء والمفاهيم التي تبناها الأب سلوانس أيضاً. قد نترك جانباً نظريات علم النفس المعاصرة، حيث أنها لا تشترك في الكثير مع المفاهيم الأرثوذكسية الإنسانية“.
في المناقشة التالية للخيال والتخيل لن أعقد أية مقارنة بين تعليم الآباء القديسين، وآراء علماء النفس والمحللين النفسيين المعاصرين. سوف أقوم بوصف الطريقة التي يتكلم بها الآباء القديسون عن الخيال والتخيل في ضوء الخبرة المعاصرة المحفوظة في الكنيسة، والتي يعيشها رهبان أيامنا المتأصلون في المنهج العلاجي الخاص بالكنيسة الأرثوذكسية.
كما نعلم، لا يهتم الآباء بمجرد الاتزان النفسي للإنسان، ولكن باتحاده بالله. لكي يصل المرء لهذه النقطة، ينبغي عليه أن يتخلص من استعمال خياله حتى لو كان يعمل بطريقة إيجابية. لكي يصل النوس إلى معاينة الله، ينبغي عليه أن يتحرر تماماً من كل الصور العقلية مهما كانت جيدة، بل ويتحرر حتى من الأفكار بغض النظر عن كونها نافعة للنمو الثقافي أو لاندماجنا في المجتمع.
على الرغم من أنه في بعض الأحيان يوجد بعض التشابه بين التعبيرات والمصطلحات التي يستعملها الآباء القديسون والتي يستعملها علماء النفس والمحللون والمعالجون النفسيون، إلا أن معنى كل من هذه التعبيرات والمصطلحات مختلف تماماً.يكون من الخطأ، في رأيي، أن نحاول تفسير النصوص الآبائية بحسب علم النفس والتحليل النفسي الحديث، تماماً مثلما هو خطأ أن نرى الظواهر النفسية على أنها خبرات روحية.
من المؤكد أن عمل الروح القدس في قلب الإنسان له أيضاً آثاره على المستوى النفسي ويؤثر على سلوكه ككيان إنساني.بنفس الطريقة، غياب الروح القدس من قلب المرء له نتائج عديدة على كل شخصيته بما في ذلك الأعراض النفسية. ومع ذلك، تختلف الآثار النفسية عن الخبرات الروحية.
2- تعريف القدرة على التخيل والخيال
يُعِّرف القديس يوحنا السلمي التخيل أو الخيال كالتالي: “الخيال هو توهم العينين عندما يكون الذهن نائماً. الخيال هو نشوة النوس عندما يكون الجسد مستيقظاً. الخيال هو رؤية شيء غير موجود في الواقع“. الخيال هو رؤية شيء ليس له وجود حقيقي وليس له أساس. ينشط الخيال عندما يكون الذهن متكاسلاً. يكون ذلك واضحاً في الأحلام عندما يكون الذهن غير يقظ.إلا أن الخيال يكون موجوداً أيضاً عندما نكون مستيقظين، وعندئذ يكون من الممكن للنوس أن يخرج خارج نفسه.
ينبغي علينا أن نوضح الفارق بين القدرة على التخيل من جهة، والخيال والتخيل من جهة أخرى. القدرة على التخيل هي قدرة طبيعية للنفس، على حين أن الخيال والتخيل هو تنشيط هذه القدرة بصور ومشاهد متنوعة تأتي من الخارج. تقع القدرة على التخيل بين النوس والحواس. إنها ليست خاصية بحتة خاصة بالنوس، ولا هي خاصية تخص الحواس. يكتب القديس غريغوريوس بالاماس قائلاً: “هذه القدرة على التخيل التي للنفس تقع بين النوس والحواس في الكيان الإنساني“. بحسب القديس غريغوريوس، تقع القدرة على التخيل على الخط الفاصل بين النوس والإدراك الحسي، ونشاطات التخيل (الخيالات)لم تكن موجودة في آدم قبل السقوط كما سنرى فيما يلي. إنها تنتمي للحالة الساقطة للإنسان.
يميز القديس يوحنا الدمشقي في نص بليغ جداً بين القدرة على التخيل، والشيء المتخَيَل، والخيال، والوهم. إنه يكتب قائلاً: “القدرة على التخيل هي خاصية للجزء غير العاقل من النفس. إنه يعمل من خلال أعضاء الحواس ويعبر عنه كإحساس.يكون شيء ما قابلاً للتخيل والإدراك عندما يقع داخل مجال خاصية التخيل والحواس. بطريقة مشابهة، يكون البصر هو الخاصية البصرية نفسها، ولكن يكون الشيء مرئياً عندما يأتي داخل مجال خاصية البصر سواء كان صخرة مثلاً أو أي شيء آخر. الخيال هي خبرة سلبية للجزء غير العاقل من النفس الذي يصادفه شيء متخَيَل. إلا أن الوهم هو خبرة سلبية للجزء غير العاقل من النفس لا يصادفه أي شيء متَخَيَل. عضو التخيل هو البطين الأمامي للمخ“.
يوضح هذا النص أن خاصية التخيل هي قدرة خاصة بالجزء غير العاقل من النفس، وهو يعمل من خلال الحواس. يعني ذلك أنها تعمل عندما تعمل الأعضاء الحسية. يكون الشيء قابلاً للتخيل (أو الإدراك) عندما يقع في مجال التخيل أو الحواس.الخيال أو التخيل هو خبرة سلبية متكونة في جزء النفس غير العاقل بواسطة شيء مُتَخَيَل، على حين أن الوهم لا يأتي من أي شيء قابل للتخيل. يوجد بالتالي عضو يسمى القدرة التخيلية، وهو قدرة تخص جزء النفس غير العاقل. توجد أشياء قابلة للتخيل تقع داخل مجال القدرة التخيلية. توجد أحلام يقظة أو خيال مرتبطة بالحواس، كما يوجد الوهم الذي يتكون في القدرة التخيلية دون أي مُدخلات من الأعضاء الحسية.
تُستعمل في بعض الأحيان تعبيرات “القدرة التخيلية” و“الخيال” في النصوص الآبائية بنفس المعنى. إنها تشير إلى الخيال أو التخيل على أنهما القدرة التخيلية والعكس بالعكس، بسبب التداخل بينهما.
إذ يعلق القديس مكسيموس المعترف على القديس ديونيسيوس الأريوباغي، يكتب قائلاً أن الخيالات والتخيل لا يشبهان التفكير. هذا الفرق واضح من الطرق المختلفة التي يعملان بها: “التفكير إيجابي وخلاق، على حين أن الخيال أو التخيل سلبي إذ هو بصمة صورة تمثل شيئاً قابلاً للإدراك من قِبَل الحواس“. التفكير هو نشاط يخص النوس والعقل، ويختص بالمفاهيم، على حين أن الخيال والتخيل سلبيان ويعكسان شيئاً قابلاً للإدراك من قِبَل الحواس. هذا هو الفرق بين التفكير، من جهة، والخيال والتخيل، من جهة أخرى.
هذا هو المعنى الذي ينبغي علينا أن نفهم به تعليم الآباء القديسين عن أن التخيل أو القدرة التخيلية هي قدرة طبيعية للنفس.التخيل هو إمكانية طبيعية للنفس تعمل فيما بين النوس والحواس. منذ السقوط، انحرفت هذه القدرة من مسارها الطبيعي وعملت بطريقة غير طبيعية في كل أنواع الخيالات والتخيلات. يتحرر المرء من كل هذه عندما يصل إلى الاتحاد بالله. ينبغي علينا أن ننظر لعبارة كاليستوس وأغناطيوس من زانسوبولوس: “للنفس ذاتها القدرة على التخيل” من هذا المنظور. مثلما يمتلك الجسد خمس حواس، هكذا تمتلك النفس خمس قدرات أو إمكانيات هي: النوس، والفهم، والرأي، والتخيل، والإدراك.بالتالي “يكون التخيل واحداً من إمكانيات النفس التي تكوِّن بها النفس الصور الذهنية“. تستعمل كلمة تخيل هنا بمعنى“القدرة على التخيل“. يقول القديس غريغوريوس السينائي نفس الشيء عندما كتب قائلاً: “لأن النفس بالطبيعة تخترع خيالات وتكون صوراً ذهنية للأشياء التي لم تصل إليها بعد“.
يكتب القديس مكسيموس المعترف عن موضوع الخيال أو التخيل قائلاً: “لم يُخلق الهوى والألم منذ البداية مع الجسد؛ ولا النسيان والجهل مع النفس؛ ولا الانطباعات دائمة التغير عن أشكال الأشياء المخلوقة مع النوس. لقد وجدت كل هذه الأمور من خلال السقوط. الشخص الذي يقصي اللذة والألم عن جسده يكون قد حقق الفضيلة العملية، والذي يخلص نفسه من النسيان والجهل يكون قد نجح في الوصول لمعاينة الله الطبيعية. الذي حرر نوسه من انطباعاته المتعددة يكون قد دخل إلى سر اللاهوت“. تماماً مثلما لم يقتنِ الجسد اللذة والألم من البداية، ولم تقتنِ النفس النسيان والجهل منذ البدء، هكذا لم يكن للنوس عالماً داخلياً من الصور المتخيلة.
ينبغي علينا لكي نصل إلى فهم واضح لهذا النص الخاص بالقديس مكسيموس المعترف، أن نضعه في سياق كل اللاهوت الخاص به الذي يضع ثلاث مراحل للحياة الروحية وهي الفلسفة العملية، والثايوريا الطبيعية، واللاهوت السري. عندما يتخلص المرء من اللذة والألم، فإنه يختبر الفلسفة العملية. وعندما يتحرر من النسيان والجهل، فإنه يختبر الثايوريا الطبيعية التي تعني الصلاة العقلية غير المنقطعة. وعندما يتحرر نوسه من الصور والخيالات، فإنه يُقاد نحو معاينة الله التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بعلم اللاهوت. الألم، والنسيان، والجهل، والخيال، والتخيل هي ظواهر ظهرت بعد السقوط مثل اللذة. وبالتالي لكي نصل للإتحاد بالله ينبغي علينا أن نتخلص ونتحرر من كل هذه الأمور. من هذا المنظار يتحدث القديس اسحق السرياني قائلاً: “كل صور هذه الأشياء التي اعتاد النوس على بنائها هي خيالات وتصورات وليست حقيقة… الصور المخلوقة من قِبَل الخيال هي بسبب مرض النوس، وليست بسبب نقاوته“.
عندما نقرأ تلك النصوص من كتابات الآباء القديسين والنصوص الأخرى المتعلقة بها، فإننا ندرك أنه على الرغم من أن القدرة التخيلية موجودة كقوة للجزء غير العاقل من النفس، إلا أن فعل التخيل والتخيل، خصوصاً عندما يكون مرتبطاً بالأهواء، هو نتيجة لسقوط الإنسان وهو ينجس النوس. يكون النوس في حالته الطبيعية خالياً من الخيالات والتخيلات. كما سنرى فيما يلي، فإن الشخص الذي بعد أن يصل لاستنارة النوس ومعاينة الله بعد تطهير حقيقي، يكون قد تخلص تماماً من استعمال خياله. هذا هو السبب الذي يجعلنا نصر على أنه ينبغي على المرء أن يتخلص من الخيالات والتخيلات، وأن يطهر نوسه تماماً. هكذا نفهم لماذا يتكلم الآباء عن التخلص من الخيالات والتخيلات لأن القدرة التخيلية، التي هي قدرة خاصة بالجزء غير العاقل من النفس، تصبح خاملة في الثايوريا النقية.
إننا نرى ذلك في المسيح. حيث أن طبيعته الإلهية أخذت الطبيعة البشرية بكليتها، وحيث أن الطبيعة البشرية اتحدت بالطبيعة الإلهية في شخص الكلمة، نتج عن ذلك أن المسيح أيضاً اتخذ قدرة النفس التخيلية. إلا أن القدرة التخيلية، كقدرة تخص جزء النفس غير العاقل، لم تكن تعمل في المسيح مثلما تعمل فينا نحن الذين تسود علينا الأهواء. نستطيع أن نقارن القدرة التخيلية لدى المسيح بجهاز التليفزيون الذي، على الرغم من كونه جهازاً لنقل الصور المتعددة، فإنه لا يفعل ذلك عندما يكون مغلقاً.هكذا، على الرغم من أن المسيح لديه قدرة تخيلية إلا أنها لم تكن تعمل فيه.
إذ يتكلم القديس يوحنا الدمشقي عن الأهواء الطبيعية غير الملومة التي اتخذها المسيح فإنه يقول: “إننا نعترف إذاً أن المسيح اتخذ كل أهواء الإنسان الطبيعية والنقية، إذ أنه اتخذ كل الإنسان وكل الخصائص البشرية ماعدا الخطيئة. ذلك لأن الخطيئة ليست طبيعية، ولم تُزرع فينا من قِبَل الخالق، لكنها ظهرت إرادياً بإرادتنا الحرة كنتيجة للبذرة الثانية المزروعة من قِبَل الشيطان، وهي لا تستطيع أن تسود علينا بالقوة“. إلا أنه ينبغي علينا أن نشير إلى أنه حتى هذه الأهواء غير الملومة لم يكن لها سلطان على المسيح ولكنها كانت تحت سلطانه. كما يقول القديس يوحنا الدمشقي، كانت الأهواء الطبيعية موجودة في المسيح بطريقة طبيعية وطريقة تفوق الطبيعة. “لقد كانت تعمل فيه بطريقة طبيعية عندما سمح للجسد أن يتألم مما يخصه، لكنها كانت فوق الطبيعة لأن التي كانت طبيعية لم تتخذ في الرب سلطاناً على إرادته“.
نستطيع أن نقول نفس الشيء عن القدرة التخيلية لدى نفس المسيح. فهي على الرغم من أنها كانت موجودة كقدرة للنفس اتخذها المسيح، لأن “الذي لم يُتَخَذ لا يُشفى“، إلا أنها لم تكن تعمل فيه كما تعمل فينا. بالتالي، لا يتخيل المسيح الأشياء. هذا هو المعنى الذي ينبغي علينا أن نفحص في ضوئه النصوص الموجودة في كتابات الآباء والقديس نيقوديموس الآثوسي، التي تقول أن المسيح تحرر من الخيال والتخيل.
ما حدث في المسيح حدث أيضاً، بدرجة أقل وبواسطة النعمة، في قديسي الكنيسة. عندما يشفى المرء بعد تدريب وعلاج مناسب بتوبة شاملة، وعندما يتحرر نوسه من التخيلات الخيالية، تصبح القدرة التخيلية غير فعالة. بالتالي يبقى النوس خالياً من الخيال والشكل كما يقول الآباء. هذه مسألة خبرة، ويكون من الصعب علينا في حالتنا الساقطة أن نفهم ذلك أو نشرحه.
يكون كل شيء قابل للإدراك من قِبَل الحواس قابلاً أيضاً للتخيل ويقع داخل مجال القدرة التخيلية، وبالتالي يأتي الخيال والتخيل إلى الوجود، بحسب قول القديس يوحنا الدمشقي. كما يخبرنا الآباء، هذا الخيال يشبه القشور التي تغطي النوس وتمنعه من معاينة الله بوضوح. لكي يصل النوس لمعاينة الله ينبغي عليه أن يتخلص من هذه القشور وأن يقف أمام الله في نقاوة. تكون القدرة التخيلية مرتبطة بالخيال والتخيل في لغة الآباء القديسين، وهم عندما يكتبون أنه ينبغي علينا أن نتطهر من الخيال والتخيل فإنهم يعنون أنه ينبغي علينا أيضاً أن نطهر القدرة التخيلية. بتعبير آخر، ينبغي علينا أن نجعل قدرة النفس التخيلية غير فعالة. لقد عاين القديسون الله واختبروه بواسطة النوس النقي الخاص بهم، وليس من خلال قدرتهم على التخيل، وهذا هو السبب الذي يجعل الأطباء النفسيين غير قادرين على تفسير كتابات القديسين ولا كل الرؤى المقدسة الخاصة بهم من منظور نفسي.
تختلف القدرة التخيلية، التي هي قدرة طبيعية للنفس، عن التخيل والخيال الذي هو وظيفة هذه القدرة. ينصحنا التقليد النسكي برمته ألا نحاول أن نتخيل الله. ينبغي علينا بدلاً من ذلك أن نجاهد لكي نطهر قدرة النفس التخيلية، ولكي نحرر أنفسنا من الخيال الملعون. ينبغي على النوس عندما يصلي أن يبقى “بلا شكل” و“خالياً من التخيل“، بحيث نستطيع أن نحفظ أنفسنا من تكوين صور لله.
3- الخيال والتخيل كظاهرة لحالة الإنسان الساقطة
منذ السقوط صارت قدرة الإنسان التخيلية جامحة وامتلأت من الخيالات. بخلاف الإنسان، الشيطان أيضاً لديه خيال. هذا هو بالضبط السبب الذي يجعل الخيال والتخيل موصلين فعالين للطاقة الشيطانية، ويجعل الشيطان يستعملهما لإيقاع الناس في الفخ. الخيال والتخيل هما الجسر بين الإنسان والشياطين الذي يعبره الشياطين لكي يضايقوه.
يكتب كاليستوس وأغناطيوس الكسانثوبولس قائلين: “الخيال، الذي يأخذ أشكالاً عديدة مثل ديدالوس الأسطوري، والذي له العديد من الرؤوس مثل الأخطبوط، يقول عنه القديسون أنه يعمل كجسر للشياطين. هؤلاء القتلة المدمرون يمضون ذهاباً وإياباً على الجسر، مشتركين مع النفس ومختلطين معها بطريقة ما، ويجعلونها عشاً للدبابير ومسكناً للأفكار العقيمة الشهوانية…”. بتعبير آخر، الخيال هو جسر تعبر عليه الشياطين لكي تتصل بالنفس وتختلط بها وتجعل الإنسان مرتعاً للأفكار العقيمة والشهوانية.
بحسب القديس مكسيموس، الخيال والتخيل وكل الصور التي يقدمانها هي قشور تعمي بصر النفس. إن أياً من تكون لديه هذه القشور يكون غير قادر على معاينة الله أو على أن يقتنع بالتعليم عن الله والأمور الإلهية. الانطباعات والأفكار المتولدة من الخيال “هي في الواقع قشور تعمي بصر النفس النقي وتسد الطريق للوصول لكلمة الحق الطاهرة“. تمنع هذه القشور التي تغطي النفس وصولها للحقيقة ولمعرفة إرادة الله. هذا هو السبب الذي يجعل القديس مكسيموس المعترف يعلِّم أنه عندما يتخلص النوس من الأفكار والصور الناتجة عن الخيالات “فإن كلمة الحق تُعلَن له بوضوح، معطية إياه مبادئ المعرفة الحقيقية“. يستطيع الشخص أن يصبح لاهوتياً حقيقياً لا غش فيه فقط عندما يتحرر من الخيالات والتخيلات. وإلا فإنه قد يتكلم عن الله تحت تأثير الشياطين، حيث أن الشياطين سوف تقدم أفكاراً عن الله وحقائق الإيمان الأخرى من خلال خياله.يقول الآباء أنه ينبغي على المرء أن يتخلص من هذه القشور التي تعمي بصر النفس النقي، ويقولون أيضاً أن القديسين يتكلمون عن الله “مثل الصيادين” (مثل الرسل) وليس “مثل أرسطو“. علم اللاهوت الخاص بهم يأتي من قلب نقي، وليس من قدرتهم على استعمال المنطق (القديس غريغوريوس اللاهوتي).
على الرغم من أنه لا يوجد سوى قدرة واحدة على التخيل، إلا أن لها ثلاثة فروع، وذلك بحسب كاليستوس وأغناطيوس الزانسوبولس. الفرع الأول هو القدرة على تصوير الأفكار، أي جعلها قابلة للإدراك، بمعنى تحويل الأفكار والمفاهيم إلى صور قابلة للإدراك. الفرع الثاني هو القدرة على تمثيل الأشياء “من البقايا المتبقية“، أي القدرة على استدعاء الأفكار الناتجة عن النوع الأول من التخيل والإبقاء عليه. الثالث “يتكون من اللذة والصور المتخيلة التي للأشياء التي تبدو جيدة أو سيئة ظاهرياً“، أي كل اللذة والحزن الناتجين عن وجود هذه الصور التي تقدمها الحواس لقدرة النفس على التخيل. بالتالي تكون أجزاء التخيل الثلاثة هي: أولاً، القدرة على تخيل وتجميع صورة؛ ثانياً، الإبقاء على الفكرة وصورتها داخل قدرة النفس التخيلية واستعادتها؛ ثالثاً، اللذة أو الحزن الناتجين عن الأفكار التي تبدو جيدة أو رديئة داخل قدرة النفس التخيلية.
حيث أن التخيل هو وظيفة طبيعية في الكيانات البشرية الساقطة والخيالات هي قشور تظلم رؤية النفس النقية منذ السقوط، يكون النوس في حالته الطبيعية عندما يتخلص من كل أشكال الخيال والتخيل. كما يعلِّم القديس هيزيخيوس القس قائلاً: “عندما لا توجد خيالات ولا تصورات في القلب، يكون النوس في حالته” ويكون مستعداً للتوجه ناحية أي رؤية روحية مبهجة ترضي الله.
كلما يكون الشخص أكثر مرضاً من الناحية الروحية، كلما كان مغلوباً من كل نوع من الخيال والتخيل. كلما كان الشخص أكثر صحة من الناحية الروحية، كلما كان أكثر تحرراً من الخيالات والتخيلات. حتى ما يشار إليه اليوم على أنه مشاكل نفسية هي مشاكل تنتج عن الخيالات وتبقى في نفوسنا بسببها. كلما تحررنا من ضغط الخيالات كلما تعافينا من المشاكل النفسية المختلفة. هذا هو السبب الذي جعل القديس يوحنا كاسيان يكتب أن علامة اكتساب فضيلة القداسة والعفة هي أن نفسه لا تلقي بالاً بالمرة للخيال أو التخيل حتى وقت النوم. “إنه يغفل هذه الصور التي ينتجها الخيال الدنس خلال النوم“.
بالطبع ليست خطيئة أن يرى المرء أحلاماً مزعجة أثناء النوم، ولكنها “علامة على أن النفس مريضة وأنها لم تتحرر من الهوى“. إنها تثبت أن النفس مريضة ولم تتحرر بعد من الهوى. هذا هو السبب، كما يعلِّم القديس يوحنا كاسيان، الذي يجعل الخيالات الدنسة التي تظهر في الأحلام أثناء النوم علامة على كسل ومرض نفوسنا.
هذا هو السياق الذي يجب أن نفهم في إطاره أي شيء نكتبه عن الخيال وعن التحرر من طغيانه وتأثيره. عندما نكتب أن التخيل هو ظاهرة في الإنسان الساقط وأنه ينبغي علينا أن نتحرر من القدرة التخيلية أيضاً، فإنا نعني أن قدرتنا التخيلية ينبغي أن تصبح غير فعالة. ينبغي علينا أن نتخلص تماماً من الخيال والتخيل، بحيث يصبح نوسنا “بلا صورة“، “بلا شكل“،“وخالياً من الخيال“. هذه هي الطريقة الوحيدة للوصول للاتحاد بالله واكتساب الشركة معه.
ليس للخيال والتخيل أي مكان بالمرة في معرفة الله النقية. معرفة الله تتجاوز كل فكرة ومفهوم. إنه معاينة الله التي يصل إليها النوس المتحرر من الخيال.
4- أربعة أنواع من الخيال
كما ذكرنا من قبل، من الواضح من تعليم الآباء القديسين أن المسار إلى الاتحاد بالله لابد وأن يمر خلال تطهير القلب والتحرر من الخيال، عندما تتحرر القدرة التخيلية من الصور والانطباعات. يحلل القديس غريغوريوس بالاماس المسار الكامل لهذه الرحلة في إحدى عظاته عن دخول والدة الإله الهيكل، التي يصف فيها كيفية وصول والدة الإله للاتحاد بالله. لقد تعلمنا في هذه النقطة أن القديسين تحدثوا عن الله بدون خيال أو تخيل، وأن علم اللاهوت النقي ليس له أية علاقة بالتخيل.
يوجد داخل الكنيسة مسيحيون في مراحل مختلفة من النمو. يكون البعض في مرحلة طفولة، والآخرون في مرحلة الصبا الروحي، ويكون الآخرون بالغين روحياً. بالتالي يكون جهاد كل مسيحي مختلفاً. ينبغي علينا أن نحذر من الاعتماد على الخيال أو التخيل، لأن هذا ليس هو أساس الحياة الروحية، ولكنه شيء يشوهها.
سوف نستند الآن إلى تعليم أب روحي معاصر هو الأرشمندريت صوفرونيوس، الذي كان خبيراً في المسائل الروحية وكان شاهداً حياً على طريقة الحياة تلك.
إنه يكتب في موضوع الخيال قائلاً: “إن عالم الإرادة والتخيل الإنساني هو عالم السراب. إنه أمر مشترك بين الإنسان والملائكة الساقطين، وبالتالي يكون التخيل عادة موصل للطاقة الشيطانية.
مثل هذه الصور الشيطانية والصور المستحضرة من قِبَل الإنسان قد تؤثر على الناس، أو تغيرهم، أو تحولهم، لكن يوجد أمر وحيد لا يمكن تجنبه وهو أن كل صورة، سواء كانت مخلوقة من قِبَل الإنسان نفسه أو مقترحة من قِبَل الشياطين، ومقبولة من قِبَل النفس، سوف تشوه الصورة الروحية للإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله. هذا “الخلق” في ذروة نموه يقود إلى تأليه الخليقة، الذي هو تأكيد للمبدأ الإلهي الموجود في لب طبيعة الإنسان. هذا هو السبب الذي يجعل الدين الطبيعي، أي دين العقل الإنساني، قد يكتسب بشكل قاطع خاصية وحدة الوجود.
كل من الصور الشيطانية والصور المستحضرة من قِبَل الإنسان قد تكتسب قوة كبيرة جداً، ليس لأنها حقيقية بكل معنى الكلمة مثل القوة الإلهية التي تتأتى من لا شيء، لكن بمقدار ما تتشكل الإرادة الإنسانية وتتبلور بواسطة مثل هذه الصور. لكن الرب يحرر ذاك الذي يتوب عن تأرجح الهوى والتخيل، وبالتالي إذ يتحرر المسيحي يسخر من قوة التخيلات“.
إنه لا يشير هنا إلى ما يسمى في هذه الأيام التخيل والذي هو حالة غير طبيعية، ولكن إلى الخيال نفسه وإلى كل صورة تخيلية ينظر إليها المرء على أنها ذات معنى.
يذكر الأرشمندريت صوفرونيوس ساخاروف، من بين أشياء أخرى، أنه يوجد أربعة أنواع من التخيل.
النوع الأول “مرتبط بأهواء الجسد الكبرى“. الذي يكون في هذه الحالة قابلاً بشكل مستمر للصور والخيالات المرتبطة بأهواء الجسد.
النوع الثاني من التخيل هو أحلام اليقظة. هذا النوع من التخيل يرتبط بصور من العالم الحقيقي. “قد يتخيل رجل فقير أنه إمبراطور، أو نبي، أو عالم عظيم“.
النوع الثالث يرتبط بالإبداع الفني والثقافي. “التفكير المتمعن في حل لمشكلة ما، الذي يكون حلاً تقنياً، يُعمِل التخيل مع الذاكرة. هذا النوع من النشاط الذهني له معنى كبير في الثقافة الإنسانية، وهو ضروري للتطور الإنساني“.
النوع الرابع من التخيل من الممكن تسميته الإبداع اللاهوتي. “عندما يحاول الذهن اختراق سر الوجود وفهم العالم الإلهي.مثل هذه المحاولات لابد وأن تتضمن على التخيل، الذي يميل الكثيرون إلى إعطائه المسمى الأسمى الذي هو الإبداع اللاهوتي“.
إنه يسترسل في تحليل إلى أي مدى يتسبب نمو الخيال والتخيل في شر لحياة الإنسان الروحية وحالته العامة من جهة، ومن جهة أخرى كيف يعيش الناسك حياته الروحية بدون التعبير عن الخيال أو التخيل أو تفعيله.
يجاهد المسيحيون بشدة، خصوصاً الرهبان، في البداية لكي يتحرروا من النوع الأول من التخيل (الخيالات الخاصة بالأهواء الجسدية الرئيسية)، ثم بعد ذلك لكي يتحرروا من الأنواع الثلاثة الأخرى. إنهم يمتنعون عن كل تخمين وأحلام يقظة، فهم يتجنبون التأمل في أمور أو مفاهيم عن الله. لا يمكن لأحد أن يكتسب صلاة النوس في القلب ومعرفة الله بواسطة القدرة التخيلية. إن تطهير القدرة التخيلية بتوبة عميقة هو وحده الذي يجلب معرفة الله الحقيقية.
إنه أمر مهم للمسيحيين الذين يعيشون في المجتمع أن يتخلصوا من النوع الأول من الخيال (الأهواء الجسدية). ينبغي عليهم أن يتجنبوا بكل قوتهم أحلام اليقظة، التي هي مصدر العديد من المشاكل النفسية، وأن يضعوا حداً للنوع الثالث من التخيل المشار إليه على أنه إبداع فني أو ثقافي. ينبغي عليهم عندما يحاولون فعل شيء أن يفعلوه على الأغلب بواسطة النقل مثلما يفعل الرهبان عندما يرسمون الأيقونات. ينبغي عليهم أيضاً أن يحاولوا تجنب النشاط الذهني المتعلق بالله. إلا أنهم يستطيعون استعمال تعليم الآباء القديسين عن الله. لا ينبغي عليهم إعطاء آرائهم الشخصية، لكن ينبغي عليهم أن يضعوا تعليم الآباء القديسين عن الله وعن كل ما له علاقة بالحياة الروحية في المقام الأول. ينبغي عليهم أيضاً عندما يصلون أن يقف النوس عند عبارات الصلاة ومعناها، ولا ينبغي عليه أن يتخيل صوراً ومشاهد.
إنه أمر مهم جداً أن قراءة الأعمال الأدبية تنمي وتثير قدرة النفس على التخيل، على حين أن قراءة أعمال الآباء القديسين تصلب قدرتنا التخيلية. يظهر ذلك أن الآباء القديسين يتحدثون بدون خيال أو تخيل، حيث أنهم اكتسبوا حياة روحية. أحد طرق التخلص من الخيال والتخيل هو من خلال قراءة مصحوبة بالصلاة لتعاليم وعظات الآباء القديسين المتنوعة.
على الرغم من ذلك، لا يكون وجود الخيال والتخيل في أولئك المبتدئين في الحياة الروحية علامة على الضلالة. إلا أنه لو بقي في حياتهم الروحية لوقت طويل، فإنه يتسبب في العديد من الاضطرابات النفسية.
5- مظاهر الخيال والتخيل
من المهم تقصي الطريقة التي يظهر بها الخيال والتخيل، وكيف يعبران عن نفسهما، وكيف يتكونان. يعني ذلك إلقاء النظر على العوامل التي تثير قدرة النفس التخيلية.
تلعب الحواس دوراً رئيسياً في نمو الخيالات. في أغلب الأحيان يكون التخيل هو استرجاع الصور التي تجلبها لنا الحواس.هذه هي صور تأتي من واقع مدرك. يعلِّم القديس مكسيموس أنه عندما يقاد الجسد نحو الرغبات والملذات بواسطة الحواس، فإن النوس المنحرف “يذعن ويخضع لخيالاته واندفاعاته الشهوانية“. بالتالي عندما يحفَز الجسد بواسطة الحواس، فإن النوس يستجيب للخيالات والتخيلات. إننا نرى شيئاً ما، ونرغب فيه، ونشعر باللذة، وتُخلَق الصورة الخيالية. بالمثل، تثير ذاكرة الشخص، أو الشيء أو الموضوع الخيال. علي حين يعمل النوس المنحرف بهذه الطريقة، فإن النوس الصالح “يمارس ضبط النفس ويمتنع عن الخيالات الشهوانية“.
يعلِّم أيضاً القديس مكسيموس قائلاً: “إننا نحمل معنا الخيالات الشهوانية التي للأمور التي اختبرناها“. عندما نختبر أموراً متعددة، وعندما نكتسب هوى من نحو شخص ما أو شيء ما، فإنه من الطبيعي أن تكون لدينا خيالات شهوانية وتصورات نحملها معنا. بالإضافة إلى ذلك، يكتب القديس غريغوريوس بالاماس أن القدرة التخيلية للنفس تستقبل البصمات أو الصور من الحواس. “هذه القدرة، وليست الحواس نفسها، هي التي تفصل تماماً الصور الموجودة داخلهم عن أجسادهم“. ليست الحواس هي الملومة، لكن من خلال الحواس تنطبع “الأشياء التي سُمعت، والتي تم تذوقها، والتي تم شمها، والتي لمُست”على قدرة النفس التخيلية وتصبح مرئية.
ترتبط الأفكار أيضاً بالحواس، وتستطيع الخيالات أن تدخل إلينا من خلال الأفكار أيضاً. يقول القديس هيزيخيوس القس أن“كل فكر يدخل القلب في شكل صورة ذهنية لشيء مدرك بالحواس“. تقتحم الصور الذهنية للأشياء المدركة أفكارنا. يقول القديس غريغوريوس السينائي أن أسباب الأهواء هي الأعمال الخاطئة، وأسباب الأفكار هي الأهواء، وأسباب الخيالات هي الأفكار. تأتي الأهواء من الخطايا التي يرتكبها الشخص باستمرار. تخلق الأهواء بدورها أفكاراً متعددة، لأنه بحسب الأهواء الموجودة فينا تثار الأفكار المرتبطة بها. بعد ذلك تصبح الأفكار مصدراً للخيالات.
بحسب تعليم القديس غريغوريوس السينائي، عندما تكون الأهواء نشطة، تأتي بعض الأهواء في المقدمة والبعض الآخر يتبعها. بتعبير آخر، في بعض الأحيان يأتي الفكر أولاً ثم يتبعه الخيال، وفي أحيان أخرى يأتي الخيال أولاً ثم يتبعه الفكر إلا أن ذلك يحدث نادراً. على كل حال، ترتبط الأفكار ارتباطاً وثيقاً بالخيالات والتخيلات. “كل فكر هو تخيل في النوس لشيء مدرك بالحواس” (كاليستوس وأغناطيوس زانسوبولس). كل فكر هو خليط من صورة ومفهوم. إنه ليس فكرة بسيطة، ولكنه يكون دائماً مرتبطاً بخيال وتصور.
إذ يتجول عقل الإنسان وينشغل بالصور المتكونة من الحواس “يصيغ أنواعاً متعددة من الأفكار من خلال المنطق، والقياس، والاستدلال. يحدث ذلك بعدة طرق، في هوى أو في لاهوى أو في موضع متوسط بين الهوى واللاهوى، بخطأ أو بدون خطأ.تؤدي هذه الأفكار إلى أغلب الفضائل والرذائل، وإلى الآراء سواء الصحيحة أم الخاطئة” (القديس غريغوريوس بالاماس).للحالة الغالبة على أفكارنا أهمية قصوى. لو كانت أفكارنا شيطانية، فإنها تسمم كل كياننا الروحي. ولو كانت إلهية، فإنها تخلق الصحة الروحية داخلنا. ترتبط الأفكار بالتخيلات باستمرار سواء كانت تخيلات صالحة أو رديئة.
حيث أن إدراك الحواس والأفكار يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بالأهواء، فإن الخيالات والتخيلات تنبع أيضاً من الأهواء، أو حتى يُعَبَر عنها من خلالها. يحدد القديس نيلوس الناسك نقطة مهمة: لو أن أحداً تخلص من أهوائه ولكنه استمر في التهاون“فإنه سوف يجد أن صور خيالات الماضي تبدأ في الظهور ثانية مثل البراعم الصغيرة“. إننا نستطيع أن نجتث الأهواء ونجاهد لكي نجعلها خاملة، لكن صور خيالات الماضي تستطيع اختراق قدرتنا التخيلية لو كنا متهاونين وغير عائشين بيقظة روحية. من يكون غير يقظ وغير سهران يخلق الظروف للأهواء لكي تعود من خلال صورها. هكذا تنتج الأهواء خيالات وتصورات، والخيالات والتصورات تنتج بيئة تساعد هذه الأهواء على الظهور من جديد.
حيث أن الكبرياء هو أعظم الأهواء وأشدها، فإن الخيال والتخيل يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بالكبرياء. المتكبر لديه خطأ ما في قدرته التخيلية. إنها تكون ملتهبة، فهي تولد كل أنواع الصور والخيالات وتجعل من نفسه منطقة للزلازل.
تظهر أيضاً الخيالات والتصورات في الأحلام التي هي العلامة الرئيسية على أن الصور موجودة داخل النفس. يقول القديس ديادوخوس الذي من فوتيكي: “ليست الأحلام إلا صوراً تعكس أفكارنا المتجولة، أو هي أيضاً خداع الشياطين“. تكون أغلب الأحلام نتيجة للتخيل الناتج عن تكون ووجود الأهواء. بالتالي، يحذر أولئك المنشغلين باكتساب الفضيلة من “ألا يثقوا أبداً في التخيل“. أيضاً، يقول القديس مكسيموس أنه عندما تزيد الشهوة من الأدوات التي تتسبب في اللذة لحسية، “يستغرق النوس في الخيالات أثناء النوم“. الأحلام هي خيالات، وهي ترتبط بالأهواء الموجودة داخلنا. إننا نستطيع تمييز أي الأهواء لدينا من خلال الصور الموجودة في هذه الخيالات.
حيث أن الخيالات والتصورات هي ظاهرة تنم عن حالتنا الساقطة، وحيث أن كلاً من الشيطان والإنسان لديه تخيل، فإن الإنسان يخضع للقوة الشيطانية من خلال قدرته التخيلية كما ذكرنا من قبل. يخدعنا الشيطان من خلال الخيال والتخيل، وتكون العديد من الصور الذهنية ناتجة عن عمله. يقول القديس هيزيخيوس القس: “حيث أن الشيطان هو نوس بلا جسد فإنه يكون غير قادر على خداع نفوسنا إلا من خلال الخيالات والأفكار“. إنه يثير قدرات النفس المنطقية والتخيلية باستمرار، وتكون العديد من الخطايا نتيجة لعمل الشيطان العنيف.
6- نتائج الخيال والتخيل
من الواضح مما قيل حتى الآن أنه عندما يُغذى الخيال باستمرار فإنه ينتج العديد من الاضطرابات داخل كياننا الروحي. يختبئ الخيال والتخيل في كل خطيئة تقريباً ويكون هو المصدر الرئيسي للمشاكل. إنه يتسبب في عدوى النفس بجملتها ويستمر في إفسادها. يمكن تحديد نتيجتين خطيرتين وشديدتين للخيال كالآتي.
النتيجة الأولى هي أن الخيال يشوه كل الحياة الروحية للشخص ويقوده إلى تأليه ذاته. يكتب الأرشمندريت صوفرونيوس قائلاً: “مثل هذه الصور الشيطانية والصور التي يستحضرها الإنسان قد تؤثر على الناس أو تغيرهم، لكن يوجد أمر واحد لا يمكن تجنبه وهو أن كل صورة، سواء كانت مخلوقة من قِبَل الإنسان نفسه أو موحى بها من قِبَل الشياطين ومقبولة من قِبَل النفس، سوف تشوه الصورة الروحية للإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله. هذا “الخلق” في ذروة نموه يقود إلى تأليه الخليقة لذاتها، الذي هو تأكيد على المبدأ الإلهي المحتوى في ملء طبيعة الإنسان. هذا هو السبب الذي قد يجعل الدين الطبيعي، أي الدين الخاص بالعقل البشري، يكتسب بشكل حاسم خاصية وحدة الوجود“.
بمقدار ما تلعب الأفكار دوراً مهماً في حالة الإنسان الروحية، فإن الأفكار المرتبطة بالخيال، وخصوصاً الخيال الشيطاني، لابد وأن تشوه كل كيانه الروحي. قد يستطيع المرء الوصول لدرجة إدراك عناصر الألوهية داخل نفسه، وبمجرد أن يدرك عناصر ما هو إلهي في شيء مخلوق، فإنه يكون بالفعل منادي بوحدة الوجود. لو أننا قدمنا العبادة لأي أفكار لدينا فإننا نعلن عن خاصية وحدة الوجود. تأليه الذات هو أعظم الخطايا. إنها الخطيئة التي سقط فيها آدم، والتي قادت إلى تشويه حياة الإنسان بجملتها، داخلياً وخارجياً، بكل نتائجها المدمرة. إن تأليه الذات، الذي هو إدراك العنصر الإلهي داخلنا، هو في الواقع تكرار لسقطة آدم. تندرج الديانات الطبيعية المعاصرة، بما فيها التأمل واليوجا وما شابه ذلك، تحت هذه الفئة.
النتيجة الثانية، والمرتبطة بالأولى، هي أن الخيال والتخيل يؤدي إلى العديد من التشوهات النفسية، إلى حد الهلاوس والضلالات. عندما يغذي الشخص الخيالات باجتهاد، حتى لو كانت خيالات تخص الحالات الروحية، وعلى الأخص عندما يستمر في ذلك على مدار سنوات، فإن كل حياته الروحية تشوه، ويعاني من اضطرابات نفسية ومرضية خطيرة. يستطيع الناس الوصول إلى هذه النقطة من خلال ممارسة التأمل. ينبه الأرشمندريت صوفرونيوس ثانية قائلاً: “إنهم يستحضرون مشاهد من حياة المسيح أو من دراسات مقدسة مشابهة. عادة ما يتبنى المبتدئون هذا المسار. بهذا النوع من الصلاة التخيلية لا يُحتوى العقل داخل القلب بهدف اليقظة الداخلية. يبقى الانتباه مثبتاً على الجانب البصري للصور المعتبرة كإلهية. يقود ذلك إلى إثارة نفسية (عاطفية)، التي إذ تصل للذروة، قد تقود إلى دهش مرضي. يبتهج المرء فيما ’وصل‘ إليه, ويتشبث بهذه الحالة، ويتعهدها، ويعتبرها ’روحية‘ (كثمار للنعمة) وبالتالي يظن المرء في نفسه أنه قديس ومستحق لمعاينة أسرار الله.لكن في الواقع، مثل هذه الحالات تؤدي إلى هلاوس، ولو لم يخضع المرء لأمراض عقلية، فإنه على الأقل يبقى ’مفتوناً‘ وعائشاً في عالم من الخيال“.
هذه هي الطريقة التي تتكون بها حالات الضلالة والهرطقة الشيطانية. كما هو واضح مما ذكرناه، تكون نفس الشخص في هذه الحالة مريضة. كل شخص لديه ضلالة وهرطقة ويتعهد خياله يكون مريض النفس. هذا ما يميت النفس. يقول القديس غريغوريوس السينائي أنه عندما يتخيل النوس فإنه “يفقد حتى الحالة الممنوحة من الله التي كان يمتلكها ويصبح مائتاً بجملته“. يكون الشخص المنشغل بخياله في خطر شديد أن يُحرَم من النعمة القليلة التي لديه، وفي ’الغالب أن يفقد عقله‘.إنه إذ يُخدَع من الخيال عادة ما يصبح مختلاً عقلياً، وعندئذ يصبح حتى المدعو هدوئياً ’خيالياً وليس هدوئياً‘.
يعرف التقليد الرهباني عن العديد من مثل هذه الحالات لنساك ضلوا، وبالتحديد لأنهم كانوا غير مبالين بمسألة الخيال والتخيل الخطيرة. لقد فقدوا خلاصهم، ولكنهم فقدوا أيضاً عقولهم. إننا نرى العديد من مثل هذه الحالات في المجتمع العلماني أيضاً.إننا نلتقي بأناس يتعهدون قدرتهم التخيلية بشدة ويضطربون داخلياً. تكون الاضطرابات النفسية والعقلية دليلاً واضحاً على أن القدرة التخيلية متضخمة وملتهبة.
يقول الأنبا بيمن أنه كان يعرف شخصاً ضربه الشيطان بعنف من خلال خياله لدرجة أنه في أحد المرات ظن أنه رأى أخاً يخطئ مع إمرأة. وعندما لم يحتمل النظر أكثر، اقترب لكي يلمسهما بيديه ويقول: “كفى الآن! حتى متى؟” وعندئذ “تحولا إلى حزم من القمح“. لم يكن هناك أحداً، ولكن بدت حزم القمح مثل الأشخاص، أو أن الشيطان أعطاها هذا المظهر.
يحكي أيضاً الأنبا إيليا أنه رأى في أحد المرات شخصاً “يحمل قارورة خمر تحت إبطه“، لقد رأى شخصاً يسرق الخمر. إلا أنه أدرك أن الشيطان كان يعمل وعلى الفور سأل الأخ أن يريه ما يحمله. لم يكن أي شيء موجود هناك بالمرة، وأدرك أن ذلك كان عمل الشياطين.
هذان المثالان لا يعنيان بالطبع أن أولئك الرهبان رأوا مثل هذه الأمور لأنهم فقدوا عقلهم باستثارة خيالهم. لقد كان ذلك عمل الشيطان. على كل حال نحن نذكر هذه الأمثلة لكي نوضح أنه من الممكن أن نرى أشياء غير موجودة من خلال نشاط شيطاني، ولكن أيضاً من خلال استثارة الخيال. من الممكن أن نختبر هلاوس وأوهام. كما يعاني مدمن المخدرات في أغلب الأحيان من الضلالات تحت تأثير المخدرات، هكذا الشخص الواقع في قبضة الخيال والتخيل يرى أشياءً غير موجودة ويعاني من الضلالات والهلاوس.
يقود تغذية الخيال والتخيل إلى هلاوس وضلالات عندما يساعده عمل العقل البشري المريض.
عن مجلة التراث الأرثوذكسي