أ- البقايا المقدسة في العهد القديم:
نجد في الكتاب المقدَّس دلائل على تكريم ذخائر القديسين، حتَّى في العهد القديم. فقد ورد فيه أن عظام يوسف الصدّيق حفظت بعناية واهتمام (يشو 49: 15 ). وهذا أمر غريب فعلاً، ففي العهد القديم اعتبرت ملامسة جسد الإنسان الميت “نجاسة” (لاو 21: 1-9، خر 44: 25). لكن الاسرائليين نقلوا عظام يوسف باحترام عظيم، ولم يتنجسوا (تك 50: 25، خر 13: 19) و”عظام يوسف التي أصعدها بنو اسرائيل من مصر ودفنوها في شكيم في الحقل الذي كان يعقوب قد اشتراه من بني حمورابي شكيم بمائة قسيطة فضة وصارت ميراثًا لبني يوسف”(يشوع 24: 32).
إن كثيرين ماتوا في مصر ولم تنتقل إلاَّ ذخائر يوسف وحدها لأنه كان صدّيقًا وقديسًا معروفًا وعظيمًا وصفيّ الله كما تنطق بذلك ترجمة حاله.
والله نفسه كرّم جسد صفيّه موسى بشرف عظيم إذ دبّر أن تدفنه الملائكة في أرض الموآبيين. فلم يعلم أحد من الناس حتَّى الآن كيف وأين دفن موسى “وقال الرب (لموسى) هذه الأرض التي أقسمت من أجلها لابراهيم ولاسحق وليعقوب قائلا إني أعطيها لنسلك إني أريتك بعينيك ولكن لاتعبر إلى هناك، فمات موسى عبد الرب هناك في ارض موآب بموجب كلمة الرب، فدفنه في : واد بأرض موآب قبالة بيت فعور ولم يعلم إنسان بقبره إلى اليوم…” (تك 34: 4-8).
والمشهور عن ذخائر القديس اليشع هو أنَّه ما كاد جسد أحد المتوفين يمسّ عظام النبي في قبره حتَّى عاش الميت وقام. “فمات اليشع فدفنوه وجاءت غزاة موأب إلى الأرض عند دخول العام وحدث عندما كانوا يدفنون رج ً لا، أنهم رأوا الغزاة فطرحوا الرجل عند قبر اليشع فنزل الرجل ولمس عظام النبي وعاش وقام على قدميه” ( 4 مل 13: 21).
وأيضًا “وتوارى إيليا في العاصفة فامتلأ اليشع من روحه وفي أيامه لم يتزعزع مخافة من ذي سلطان ولم يستول عليه أحد، لم يغلبه كلام وفي رقاد الموت جسده تنبأ، صنع في حياته الآيات وبعد موته الأعمال العجيبة” (سير 13: 15).
قال القديس كيرلس الأورشليمي: “إن أليشع وهو في الأحياء فعل معجزة القيامة بروحه”. “فلما دخل اليشع البيت إذا بالصبي ميت ملقى على سريره، فدخل وأغلق الباب عليهما وصّلى إلى الرب، صعد على الصبي واضطجع عليه ووضع فمه على فمه وعينيه على عينيه ويديه على يديه وامتدّ عليه إلى أن دفئ لحمه، فرجع ومشى في البيت فترة هنا وفترة هناك ثم عاد ثانية فامتد عليه فعطس الصبي سبع مرات وفتح عينيه ودعا جيحزى وقال: ادع هذه الشونميّة دعاها فدخلت إليه فقال: خذي ابنك، فصعدت وخرّت عند رجليه وانحنت إلى الأرض وأخذت ابنها وخرجت”( 4مل: 37-32).
فضلاً عن ذلك فكي لا تبقى أرواح القديسين مكرّمة وحدها فقط بل ليؤمن الناس بأن لأجساد الأبرار أيضًا تلك القوة عينها فالميت الذي سقط في رمس أليشع حيي إذ مسّ جسد النبي الميت.
فجسد النبي الميت فعل المعجزة عوص روحه فإذا كان ميتًا وملقى في القبر منح الميت الحياة والمانح الحياة نفسه بقي ميتًا كما كان. ولماذا؟ لكي لا يعزى هذا العمل للروح وحدها فيما لو قام أليشع. بل ليرى أّنه وفي حال عدم وجود الروح في الجسد تضمن في أجساد القديسين قوة فاعلة للمعجزات إذ في أمد سنين سكنت فيها روح بارزة خاضعة لها.
ولمّا كان ملك اليهودية يوشيّا يستأصل العبادة الوثنية، وحينئذ أحرق كثيرًا من عظام الأموات فحوّلها رمادًا. إلا أنَّه أمر مع ذلك بأن يحفظ ذخائر النبي انسان الله القديس الموجود هناك بالاكرام كاملة سالمة “…ولتفت يوشيا فرأى القبور التي هناك في الجبل فأرسل وأخذ العظام من القبور وأحرقها على المذبح ونجّسه حسب كلام الرب الذي نادى به رجل الله الذي نادى بهذا الكلام. وقال ما هذه الصورة التي أرى؟ فقال له رجال المدينة: هي قبر رجل الله الذي جاء من يهوذا ونادى بهذه الأمور التي عملت على مذبح بيت ايل. فقال دعوه، لا يحركن أحد عظامه. فتركوا عظامه وعظام النبي الذي جاء من السامرة…” (انظر 4 مل 23: 4-25).
وأخيرًا يروي الكتاب أيضًا أن أحد “رجال الله” صّلى ولم يحافظ على الوصايا، فعوقب على ذلك بأن لقيه أسد وهو خارج من بيت ايل على ظهر حماره، فقتله”. وبقي ملقى على الطريق والحمار مقابله، والأسد قائم إلى جانب الجثة”. أي أن الوحش الذي صار أداة للعدل الإلهي، لم يمزّق جسد رجل الله، بل تصالح مع الحمار ووقف بقربه يحرس الذخيرة المقدسة. ثم مرّ بعض الناس من هناك ورأوه، فأسرعوا إلى المدينة وأذاعوا النبأ. أما النبي الشيخ الذي تسبّب في ضلال رجل الله فذهب إلى ذلك الموضع ووجد جّثته ملقاة على الطريق والحمار والأسد قائمان بجانب الجثة، ولم يأكل الأسد الجثة ولا افترس الحمار. فأخذ النبي جثة رجل الله وجعلها على الحمار ورجع بها. ودخل النبي الشيخ المدينة ليندبه ويدفنه، ووضع جثته في قبره، وندبوه قائلين: أواه يا أخي. وبعد أن قبره كّلم بنيه قائ ً لا: إذا م ّ ت فادفنوني في القبر الذي دفن فيه رجل الله، بجانب عظامه ضعوا عظامي” ( 3 مل 13: 25-31).
يشهد هذا المقطع الأخير على ثقة ذلك النبي بالقوة العجائبية الكامنة في ذخائر الإنسان القديس، ولو خالف ذلك وصايا الله برهة فعوقب. وكذلك موقف الحمار والأسد اللذين صارا أداة في يد الله فوقفا باكرام وورع إلى جانب الذخائر.
ب – البقايا المقدسة في العهد الجديد:
فإن كانت عظام وبقايا أنبياء العهد القديم – الممسوحين من الخارج – قد أقامت الميت، فكم بالحرى ذخائر قديسي العهد الجديد، الذين سكن فيهم يسوع من الداخل ومسحهم بالروح القدس القاطن فيهم، جاعلاً أجسادهم هياكل له ( 1 كور 6: 19).
إن من لا يكرّم ذخائر القديسين هو بعيد عن روح الانجيل، لأن الإنجيل يأمرنا أن نقدم اجسادنا ذبيحة حيّة مقدسة (رو 13: 1). وهذه الذبيحة لاتقدم إلا بالروح القدس، جاعلاً الجسد للرب والرب للجسد ( 1كور 6: 13)، : فإن كانت حياة الرب يسوع تظهر في أجسادنا ( 2كور 4 : 10) فكم بالحرى نعمة روحه القدوس.
وجاء في انجيل متى أن قبور الانبياء في أيام المسيح كانت مبنية في أورشليم ومدافن الصدّيقين مزيّنة تكريمًا لذخائرهم المقدسة: “الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تبنون قبور الأنبياء وتزيّنون مدافن الصدّيقين وتقولون لو كنا في أيام آبائنا لما شاركناهم في دم الأنبياء” (متى 23: 29-30).
وربما تقول : إن المسيح لم يثن على عمل أهل أورشليم هذا بل الأمر بالعكس لأنه أنبهم قائلاً: “الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تبنون قبور الأنبياء وتزيّنون مدافن الصديقين”. ولكن ثيوفيلكتوس المغبوط يجيب على هذا بقوله: “إن الرب لم يؤنبهم لأنهم بنوا للأنبياء قبورًا، عملهم هذا عمل جيد، بل لأنهم عملوا هذا رياء أو منافقة أنبهم على نفاقهم ورداءتهم ضد المسيح. إنهم قالوا (لو كنا في أيام آبائنا لما شاركناهم في سفك دماء الأنبياء) مع أنهم في الوقت عينه كانوا ينوون قتل ابن الله الذي تنبّأت عنه الأنبياء. ولذلك قال لهم الرب: “الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون فاملأوا أنتم مكيال آبائكم”، فمن هنا نرى جليًا أن تكريم الذخائر المقدسة كان عند الاسرائيليين ليس قبل مجيء المسيح فقط بل وفي أيام حياته على الأرض أيضًا.
إن المرأة نازفة الدم إذ لمست ذيل ثوب المخلص لن تسمّ عابدة أصنام بل بالعكس لأنَّها بسبب ذلك نالت الشفاء والمديح “وإن امرأة مستحاضة منذ اثني عشرة سنة، وقد كابدت كثيرًا من اطباء كثيرين وصرفت جميع ما عندها من أموال ولم تستفد شيئًا بل صارت إلى أسوأ حال، فلمّا سمعت بيسوع جاءت في المجمع من خلفه ولمست ثوبه، لأنَّها قالت إني إذا لمست ثيابه شفيت.
وللوقت كفَّ مجرى دمها وأحسّت بأنها برئت من دائها، عندئذٍ علم يسوع في نفسه بأن قوة قد خرجت منه فالتفت إلى الجمع وقال: من لمس ثيابي؟ فقال له تلاميذه: أنت ترى الجمع يزاحمك وتقول من لمسني، فنظر حوله ليرى التي فعلت هذا، فخافت المرأة وارتعدت لعلمها بما حصل لها وجاءت فركعت أمامه واخبرته بالحقيقة كّلها فقال لها: “يا بنية، قد شفاك إيمانك فانطلقي بسلام واسلمي من دائك” (مر 5: 25-43، مت 9: 20-22، لو 8 : 43-48).
ولم ينبذ أولئك الذين كانوا يأتون بايمان وحمّية إلى ظلّ الرسول القديس بطرس، بل الأمر بالعكس، لأنهم كانوا يكافأون بالشفاء من أمراضهم لا بل “كان المؤمنون يزدادون للرب جماعات من رجال ونساء، حتَّى أن الناس كانوا يخرجون بالمرضى إلى الأسواق ويضعونهم على أسرّة وفرش لعلّ بطرس إذا مرّ، يظّلل بعظهم بظّله، وقد اجتمع أيضًا في أورشليم من المدن التي حولها جماعات يحملون مرضى ومن عذبتهم الأرواح النجسة فبرئوا جميعهم واحدًا فواحدًا” (أع 5: 14-16).
ولم يسمّ أولئك الذين وضعت عليهم العصائب والمناديل المأخوذة عن جسم القديس بولس ومن شفيوا بذلك رقاة ومعوذين. “وصنع الله على يد بولس قوات عظيمة، حتَّى أنهم كانوا يأخذون عن جسمه إلى المرضى مناديل أو عصائب فتزول عنهم الأمراض وتخرج منهم الأرواح الشريرة”. (أع 19: 11-12). فإذا كان للظلّ والمناديل الرسولية هذا المقام من الكرامة عند المؤمنين فبالأحرى أن يكون تكريم ذخائر الرسل المقدسة ولا ريب أعظم مقامًا عندهم. وإذا كانت لتلك قوّة شفائية فبالأحرى أن تكون لهذه أيضًا.
ونستنتج أيضًا أن أجساد جميع المسيحيين يجب أن تكون، وكذلك اجساد القديسين، هياكل الروح القدس. وهذا ما يؤكده القديس بولس الرسول في كلماته: “أما تعلمون أنكم هياكل الله وروح الله يسكن فيكم” ( 1 كور 3: 16-17)، “أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله وانكم لستم لأنفسكم لأنكم قد اشتريتم بثمن فمجّدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي الله” ( 1 كور 6: 19-20).
والرسول ذاته يقول أيضًا: “فإن طهّر نفسه من هذه يكون اناء للكرامة مقدسًا نافعًا للسيد مستعدًا لكل عمل صالح” ( 2 تيمو2: 21) بكل تأكيد فإن اجساد القديسين هي هياكل الروح القدس و “آنية للكرامة” وان كانت النفس قد فارقتها بالموت.
المصدر:www.orthodoxonline.org