يسوع ذكرني! كنتُ، في الهيكل، في الباحة الخاصّة التي تدخلها النساء من أحد أبواب حرمه. وألقيتُ، في إحدى خزائنه، فلسًا (أصغر نقد متداول) إسهامًا خفيًّا منّي في مصاريفه. ورآني. أنا لم أره، ولم أسمعه. كان بعض الناس يردّدون ما قاله، وسمعتُهم. قالوا: كان «قبالة الخزانة ينظر كيف يلقي الناس فيها نقودًا من نحاس». ورأى أنّ كثيرًا من الأغنياء ألقوا «شيئًا كثيرًا». وأخبروني أنّه قال لتلاميذه: «الحقّ أقول لكم إنّ هذه الأرملة الفقيرة (أي أنا!) ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا في الخزانة، لأنّهم كلّهم ألقوا من الفاضل من حاجاتهم. وأمّا هي، فإنّها من حاجتها ألقت جميع ما تملك، كلّ رزقها (مرقس ١٢: ٤١-٤٤).
ذكرني! وأثارني أنّه علم بأنّني أرملة فقيرة وبما وضعتُهُ في خزانة الهيكل! أثارني، وأثار كثيرين آخرين. فلأخصّص: فقراء كثيرين، منبوذين كثيرين، آرامل كثيرات! كلّهم أفرحهم أنّ الفقراء يُذكرون، ويُرفعون! وأنا تركتُهم في فرحهم من دون أن أكشف لهم سرّي. لقد رآني، وأخبر تلاميذه عنّي، ولم أرد أن يتلهّى أحد من الناس بي! الأرامل كثيرات هنا. ويمكن أن ينطبق ما قاله على أيّ واحدة منهنّ!
سمعتُهم. واعتمدتُ أن أشاركهم في حديثهم كما لو أنّ ما سمعتُهُ أرويه عن امرأة أخرى! وجدتُ في الرواية سحرًا، وسحرًا آخر بأنّ سرًّا خاصًّا بات يجمعني به. هل أخطأتُ بعدم مناجاتي بسرّي؟ لا أعتقد! هل أدخلتُهم في وهْمٍ لا يعنيهم؟ لا، لا! رأيتُ أن أشجّعهم على أن يستمرّوا في نقل رواياته. هذا، بصدق، ما رأيتُهُ. ثمّة، في الهيكل روايات كثيرة. ومعظمها فجيعة! دخلتُ في حرب الروايات! اتّفقتُ، سرّيًّا، مع الراويّ الأوّل على أن أشنّ حربًا شعواء على كلّ ما يناقض رواياته. فما سمعتُهُ عنه، جذبني إلى مناصرته من بعيد. هو رآني من بعيد. وأنا قرّرتُ أن أناصره من بعيد أيضًا. وخير ما أرى نفسي تستعجلني إلى مناصرته هو توبيخه الموضوعيّ الذي وجّهه إلى الكتبة. آه من الكتبة! على أيّ انتقاد أتكلّم؟ على هذا الذي ما زال صداه يتردّد في الهيكل، أي على قوله فيهم: «إنّهم يحبّون المشي بالجُبب، وتلقّي التحيّات في الأسواق، وصدور المجالس في المجامع، والمقاعد الأولى في المآدب. يأكلون بيوت الأرامل، وهم يظهرون أنّهم يطيلون صلواتهم»، ووعدهم بأنّهم سينالون عقابًا شديدًا (مرقس ١٢: ٣٨-٤٠).
هذا هم فعلاً! يا لجرأته وموضوعيّته! يقول ما لا نحسن أن نقوله. وإذًا، يجب أن نناصر كلّنا رواياته، ونذيعها علنًا! يبدو أنّه يعرف كلّ شيء. يعرف أنّ قادة جماعتنا يشبهون الوثنيّين في حياتهم المترفة! أنا لا أسقط عليه رواياتي، بل أردّد ما أفصحه من دون أن أدين، أو أعمّم! هذه الحجارة، التي يقوم عليها الهيكل، تعرف أنّهم يروون أنّ ثرواتهم بركة من الله، وأنّ الفقراء ملعونون. يا لتبجّحهم ومكرهم! كلّ مصائبنا منهم. يروون أنّهم حماة كلمة الله ومعانيها. ويسوع وبّخهم، يعني أنّهم يخالفونها. نراهم يسيطرون على مقدَّرات حياتنا وعلى كلّ شيء تقريبًا (على المجامع في المدن والقرى، ومدارس التعليم، والمحاكم، والمجالس العليا، وغيرها)، ويحسبون أنّنا لا نعرف أنّ ابتعادهم عن مال الهيكل الذي تركوه للكهنة، والسياسة التي تركوها لكبار الكهنة، إنّما هو تعفّف كاذب! لا يعرفون أنّ الناس كلّهم يعرفون أنّهم يقودون كلّ شيء، ويحرّكونه في عار خفيتهم. هل أناصر يسوع انتقامًا منهم؟ لا، بل أروي!
أروي، ويجب أن أروي. فهل ثمّة رواية تفوق رواية معرفتي أنّ يسوع يعرف سرّ الإنسان. لقد قبض عليَّ، ولن أتركه! من دون أن أراه، قبض عليَّ. بتُّ ملكه! لقد كشف لي أنّه نزيل حياتي، تفاصيل حياتي. يعرفني كلّي، ويراني كلّي. لقد قال عنّي إنّني قد قدّمتُ الكلّ! يا لوداعة عينيه اللتين تريان اللاشيء كلاًّ! أنا، فهمتُ! ولا تعوزني إشارة أخرى، لتدلّني عليه. هذه تكفيني! فليس غير الربّ، إله الكلّ، قادرًا على أن يعرف أعماق الناس كلّهم، واحدًا واحدًا. هل أخرج إلى الفقراء أصرخ: إنّه هنا؟ هل أنادي أنّ «معتصمنا من السيل، ظلّنا في الحرّ» (إشعياء 25: 4) هنا؟ إنّه هنا! يرى، ويعرف كلّ ما يجري، ويبدي موقفه من الكلّ، واحدًا واحدًا. يا لكم يعرف، ولكم يرى! سأخرج! سأخرج بصحبة اللواتي أخبرنني. إنّهنّ، مثلي، على ثقة بأنّه هنا. للفقراء سرّهم في كشف الخفايا التي تحتحب عن المتكبّرين ومحبّي المجد الباطل والتسلّط الذي يجعل الناس دمًى، أي، باختصار، عن الكتبة والذين يحبّون رواياتهم!
لم أعتقد أنّ يسوع سيفاجئني، اليوم، في خزانة الهيكل. كانت مفاجأةً لا تثمَّن! هل لم أتمنَّ أن أراه؟ بلى، تمنّيتُ كثيرًا. ولكنّ صدى كلماته في الهيكل، وما وصل إليَّ منه، دلّني إليه. فيسوع كلماته أيضًا. أنا امرأة أتيتُ إلى الهيكل أحمل فلسي معي. كان هذا ثروتي الوحيدة. وفي عودتي إلى بيتي، باتت لي ثروة أخرى. باتت كلماته ومعرفتي أنّني أقيم في عينيه! الناس، أي الفقراء مثلي، لو سألتَهم عن أغلى أمنية على قلوبهم، لقالوا لك، من دون انتظار، أن يبقى الله يحتضننا في عينيه. إنّهم لواثقون بأنّه يفعل، ويرجونه دائمًا. هل مثل هذا الاحتضان نعمة، تعزية، ثروة. هؤلاء الكتبة قال يسوع فيهم إنّ كلّ ما يعنيهم أن يراهم الناس، ويكرّمهم الناس. أخذوا أجرهم! أمّا الفقراء وحدهم، أي الفقراء الحقيقيّون، فلا ينتظرون أن يراهم أحد، أو يكرّمهم أحد. هم لهم انتظارات أخرى، انتظارات واثقة لا يقدر على أن يحقّقها سوى يسوع الذي احتضنتني عيناه في الهيكل. أنا ناصرتُهُ! وهذا يكفيني، لأطوي حياتي عليه!