ان الآية التي استهلّ بها لوقا البشير إنجيل اليوم انما هي قاعدة المحبة الذهبية حيث قال الرب: “كما تريدون أن يفعل الناس بكم كذلك افعلوا انتم بهم”.
هنا يرشدنا الإنجيل الى أن المحبة هي اولا أن ننتقل الى ما يهمّ الغير، أن نضع أنفسنا في منظار الآخرين، ذلك لأن الأنانية كانت في أن ينظر الانسان الى ما له، الى مصالحه، الى ما يعبّ من هذه الحياة، في حين ان المحبة هي أن يُرى كما يَرى الغير ليرعى مصالح الآخرين، ليرعى نفوس الآخرين.
ولذلك يتابع الرب كلامه: “فإنكم إن أحببتم الذين يحبّونكم فأية منّة لكم”. هنا يُدخلنا الكلام الإلهي مباشرة في تمييز ما هو أساسي في المسيحية ألا وهو أن المحبة شيء والأشواق البشرية شيء آخر. هذه العواطف التي تولد معنا باللحم والدم، العواطف نحو الأقرباء والأنسباء والأصدقاء يقول عنها الكتاب انها أمر عاديّ، انها أمر مألوف. الخطأة والعشارون والوثنيون يمارسونها. انها عاديّة، غريزيّة بحد ذاتها، لكن يمكن للإنسان أن يحوّلها الى شيء أعظم وأسمى.
المحبة الإنجيلية الأصيلة التي أتى بها يسوع، المحبة التي لم يكن لأحد من الناس قبله ان يتكلّم عنها، المحبة التي لم يتكلّم عنها بعده أحد، هذه المحبة الإنجيلية متجذّرة في قلب يسوع. هذه التي يدعونا الكتاب صفحة بعد صفحة إلى أن نقيم فيها وأن نلقي حياتنا عليها حتى يصل القول الإلهي الى الذروة: “أحبّوا أعداءكم”.
هذه ليست من النفس البشرية. محبة الأعداء التي نتجاوز فيها طبيعتنا انما قذفها الله في قلوب الناس بل زرعها الله في نسيج الحضارة بدم يسوع. قبل ان يُسفك دم يسوع على خشبة، لم تكن البشرية عارفة بهذه المحبة. والذين لا يؤمنون بدم يسوع المبذول على الصليب ليست عندهم المحبة بأبعادها وأعماقها وتطلعاتها كما وصف يسوع المسيح.
ثم نذهب أيضًا الى أبعد من هذا اذ يجب ان نغوص في فهمنا للسيد. يقول الإنجيليّ لوقا: “أقرضوا، أحسنوا غير مؤملين شيئًا فيكون أجركم كثيرًا”. أعطوا غير مؤملين شيئًا أي أعطوا الحب وأنتم عالمون مسبقًا ان الناس سيجازونكم بغضًا. أعطوا مالا، بددوا أموالكم كما قال الرسول وأنتم عالمون بأن الذين سيستلمون هذه الأموال لربما أخذوها وداسوكم بأرجلهم.
ماذا يفعل الناس عادة؟ يوزعون شيئا من أموالهم حتى يُعرَفوا او لكي يشكرهم الناس، لكي يبقى لهم أصدقاء في الأرض، ولذلك فهم يخرجون ويظلمون اذا ما جاءهم الناس بعدم المعروف. أما المسيح يسوع الذي يعلم ما في القلب البشري، فقد حضّنا على أن نعطي ونحن واثقون بأننا سنتلقى النكران والشتيمة والاضطهاد. ولهذا قال: اذا أعطيتم وأنتم غير مؤملين شيئًا، عند ذاك تكونون بني العلي لأن الله عندما يعطي فهو لا يرجو من الناس شيئا.
الله عالم بادئ ذي بدء بأننا كفار وغدارون وطماعون، وبأننا لا نحبّه، وبأننا نشتمه، وبأننا نبيعه، وبأننا ندوسه. الله عالم أن الحب البشري متأصل في النفس، في ثناياها كلها، والله على علمه هذا يعطي دائمًا ودائما حتى المنتهى، وما الله سوى عطية مبذولة من الأزل والى الأبد.
إن أعطيتم وانتم لا ترجون شيئًا بالمقابل، عند ذاك تكونون مثل الله الذي يُنعم على غير الشاكرين والأشرار. ولهذا ينتهي إنجيل اليوم بالقول: “فكونوا أنتم رحماء كما ان أباكم هو رحيم”. اي فليكن حبكم متسعا لجميع الناس، وهذا هو معنى كلمة الرحمة بالعربية، كونوا واسعين حتى المنتهى، وليكن الأشرار والصالحون في قلوبكم لأن قلوبكم تكون عند ذاك كعرش الله الذي يحتوي أبناءه جميعًا.
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
“رعيّتي”، العدد 40، الأحد 5 تشـرين الأول 2014