...

كلمة الراعي وصفة الصوم الكبير: الغذاء والدواء والبوصلة

القدرة على التعاطي مع الواقع تتحكّم فيها عوامل كثيرة، إلّا أنّ الأهمّ بينها على الإطلاق يبقى إيماننا المعاش. في هذا السياق تبقى دعوة المسيح إلينا: «اطلبوا أوّلًا ملكوت الله وبرّه، وهذه كلّها تُزاد لكم» (متّى ٦: ٣٣)، المنارة التي تنير سبيل التعاطي الصحيح مع الواقع. يساعدنا إنجيل أحد الغفران على تصويب البوصلة في هذا الاتّجاه، عبر كشفه جوهر الحياة المسيحيّة في أبعادها الثلاثة: في علاقتنا مع ذواتنا، في علاقتنا مع أترابنا وفي علاقتنا مع الله، ويشرح لنا كيفيّة تطبيق قول السيّد المُشار إليه أعلاه.

يتلخّص محور إيماننا بالمحبّة. هذا هو الوجه الأنصع على الإطلاق في رسالة المسيح وتعليمه وشهادته ودعوته إلينا لعيشه. فسرّ الخلاص الذي أتانا به بتجسّده وموته وقيامته إنّما هو تعبير عن عمل الله على مصالحة الإنسان معه ومع أخيه الإنسان. بذلك يمكنه أن يعيش بسلام ووئام مع أقرانه. تفترض المصالحة العمل باتّجاهَين: من جهة، منح المسامحة والغفران على مساوئ ومظالم وشرور ارتُكبت بحقّنا، ومن جهة أخرى، طلبها ممّن ارتكبناها بحقّهم. هذا صعب ولربّما مستحيل لولا خبرتنا مع الله نفسه الذي يجدّد نفوسنا كلّما طلبنا إليه أن يسامحنا، ويعطينا الفرصة تلو الأخرى لإصلاح الذات والرُبط التي تجمعنا بغيرنا. لا بدّ لنا إذًا من أن نأخذ بالاعتبار هذه المعادلة الروحيّة الأساسيّة: «إن غفرتم للناس زلّاتهم يغفر لكم أيضًا أبوكم السماويّ. وإن لم تغفروا للناس زلّاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضًا زلّاتكم» (متّى ٦: ١٤-١٥).

لـمّا كانت المحبّة المجّانيّة هي جوهر إيماننا، كان لا بدّ من أن نضع تحت المجهر ما يعتمل نفوسنا من اعتبارات في عيشها والوصول إلى نقاوتها. هذا يعني السهر على أفكارنا الداخليّة خصوصًا إذا كنّا نجاهد من أجل تنقية المحبّة من شوائبها فينا. تعلّمنا الكنيسة أنّ أداة تشذيب المحبّة تكون عبر الصوم الذي يعرّي اهتماماتنا الأنانيّة والاستهلاكيّة، وما يرافقها من روح الامتلاك والسيطرة من جهة، وروح اللامبالاة والاستهتار بقريبنا، من جهة أخرى. هذا يعني أن نعيش بُعد التنقية الشخصيّة أمام الله وليس أمام عيون الناس. هكذا ندرك الحكمة الكامنة في قول الربّ: «لا تظهر للناس صائمًا بل لأبيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية» (متّى ٦: ١٨).

تأسيس رُبطنا على المحبّة الغافرة وبناء حياتنا الداخليّة على تنقيتها من المجد الباطل والأنانيّة، لا ينعزلان عن الهدف الذي نبتغيه من حياتنا الحاضرة، وكيفيّة فهمنا عطيّة الحياة نفسها. فهل مسعانا بشأن ذواتنا ورُبطنا ينطلق من ثقتنا بالله، ويتغذّى من نعمته ويستنير بحكمته ويعتمد على محبّته؟ وهل يشكّل لنا الله نفسه أبلغ عطيّة وأثمن هدف نضعه لحياتنا، بحيث نأخذ إرادته وكلمته على محمل الجدّ؟ وهل نؤمن بأنّ عطيّته لنا تستحقّ منّا الانتباه الواجب حتّى لا ننحرف عن الهدف، أو نستبدل بها ما هو عابر وزائل، حتّى لا نقول، بما هو مضرّ ومؤذٍ؟ من هنا يستضيء دربنا بتوجيه يسوع أبصارنا: «لا تكنزوا

لكم كنوزًا على الأرض… بل اكنزوا لكم كنوزًا في السماء… لأنّه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا» (متّى ٦: ١٩-٢١).

بات طريق الصوم الكبير مؤسّسًا بشكل صحيح على كيفيّة تحقيق أن «اطلبوا أوّلًا ملكوت الله وبرّه». معنا البوصلة التي تشير إلى معالم الطريق الذي نجتازه يومًا بعد يوم، من امتحان إلى آخر، لنبلغ إلى كنزنا في السماء. ولدينا الطعام- المحبّة- الذي يغذّي النفس وينير عليها ثناياها. وهاكم الدواء- الصوم- الذي يشفي اعتلالنا في الأهداف التي نضعها وفي الرُبط التي نبنيها وفي تطلّعاتنا الداخليّة التي تتحكّم في تصرّفاتنا. عسانا نتعاضد من أجل أن تثبت المصالحة بيننا، وأن تنمو عيننا الداخليّة في الشؤون الروحيّة، بحيث نشكر الله على زمن الحياة الحاضر بينما يهيّئ لنا عبره زمنًا أبديًّا يكلّل جهادنا.

+ سلوان متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)

 

الرسالة: رومية ١٣: ١١-١٤ و١٤: ١-٤

يا إخوة إنّ خلاصنا الآن أقرب ممّا كان حين آمنّا. قد تناهى الليل واقترب النهار فلندعْ عنّا أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور. لنسلكنّ سلوكًا لائقًا كما في النهار، لا بالقصوف والسِّكر ولا بالمضاجع والعهر ولا بالخصام والحسد، بل البسوا الربّ يسوع المسيح ولا تهتمّوا بأجسادكم لقضاء شهواتها. من كان ضعيفًا في الإيمان فاتّخذوه بغير مباحثة في الآراء. من الناس من يعتقد أنّ له أن يأكل كلّ شيء، أمّا الضعيف فيأكل بقولًا. فلا يزدرِ الذي يأكل من لا يأكل، ولا يدنِ الذي لا يأكل من يأكل، فإنّ الله قد اتّخذه. من أنت يا من تدين عبدًا أجنبيًّا؟ إنّه لمولاه يثبت أو يسقط، لكنّه سيثبَّت لأنّ الله قادر على أن يثبّته.

 

الإنجيل: متّى ٦: ١٤-٢١

قال الربّ: إن غفرتم للناس زلّاتهم يغفر لكم أبوكم السماويّ أيضًا، وإن لم تغفروا للناس زلّاتهم فأبوكم أيضًا لا يغفر لكم زلّاتكم. ومتى صمتم فلا تكونوا معبّسين كالمرائين فإنّهم يُنكّرون وجوههم ليظهروا للناس صائمين. الحقّ أقول لكم إنّهم قد استوفوا أجرهم. أمّا أنت فإذا صُمْتَ فادهن رأسك واغسل وجهك لئلّا تظهر للناس صائمًا بل لأبيك الذي فـي الخفية، وأبوك الذي يرى في الخفية يُجازيك علانية. لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يُفسد السوس والآكلة وينقب السارقون ويسرقون، لكن اكنزوا لكم كنوزًا فـي السماء حيث لا يفسد سوس ولا آكلة ولا ينقب السارقون ولا يسرقون، لأنّه حيث تكون كنوزكم هناك تكون قلوبكم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كلمة الراعي

وصفة الصوم الكبير:

الغذاء والدواء والبوصلة