نعيّد اليوم لجميع القدّيسين الذين أكملوا سعيهم، حفظوا الإيمان ونالوا من المسيح القسط الوافر من البرّ، وتعاطوه في حياتهم تعاطيًا كبيرًا وأطاعوه وحفظوا الوصايا، حين كان بقيّة القوم يتسلّون ويتغنّون بالمعاني الدينيّة، يقصدون الكنيسة في المناسبات وحياتهم تسري كأنّها وثنيّة.
يخلط الناس عادة بين شهواتهم ورغبتهم في الله. لا يريدونه بحقّ ولكنّهم يتمنّون أن يكونوا له، غير أنّهم لا يحزمون أمرهم ولا يشدّدون عزيمتهم ولا ينفصمون عن منافعهم الدنيويّة.
المؤمن الكبير الذي يريد قداسة لنفسه هو ذلك الذي يتجنّد في سبيل المسيح حاملاً سلاح البرّ، سلاح التقوى، سلاحًا غير منظور فيكون المسيح مالئًا قلبه، وإذا ملأ المسيح حياته له عندئذ أن يتعاطى كلّ شيء في الدنيا وأن يكون طاهرًا. يمكنه أن يواجه الناس وأن يعاملهم بغير عدوان وبغير انتفاخ وبغير تعصّب، أن يحبّ كلّ إنسان ويسعى إلى كلّ وجه يفتقده ويعزّيه.
السؤال المطروح علينا اليوم هو: هل نريد أن نُصبح قدّيسين، بلا لوم وبلا عيب، ملتصقين بالمسيح حتّى إنّ من رآنا يقول: هذا الإنسان كأنّه المسيح. هل يقال هذا عن الكثيرين؟ إن لم يقل الناس عنّا هكذا فمعنى ذلك أنّنا لسنا على دروب القداسة، وأنّنا نُتبّل دِيننا في دُنيانا ولا نريد أن نخسر شيئًا من الملذّات ومع ذلك نريد أن يرحمنا الله.
الله ليس رحيمًا لمن لا يريد أن يرحمه ربّه، الله ليس رحيمًا للحجر، فمن جعل قلبه حجرًا لا يستطيع أن يتلقّى رحمة الله. فلننتبه إلى ألاّ تتحجّر قلوبنا بالخطيئة وبالخيانة. كثيرون لا فرق عندهم بين الأمانة والخيانة، بين الإيمان والجحود، بين الحبّ والكراهية. مَن منهم يسعى إلى الاستقامة الكاملة؟ مَن يسعى إلى أن يُطهّر نفسه كلّ يوم وأن يتدرّب على الطهارة قولاً وفعلاً وفكرًا ونيّة؟
نحن في يوم كهذا نتطلّع إلى أن نصبح قدّيسين وأن نعود إلى الإخلاص. سوف نُصبح قدّيسين مع الذين سبقونا إلى الملكوت وأعدّوا لنا مكانًا طيّبًا هناك، الذين انتقلوا قبلنا كان لهم جهادهم على الأرض ويتمتّعون الآن مع القدّيسين جميعًا برضى الله ونعمته. فإذا اتّجهت أفكارنا إليهم، فلتذهب بالتّعزية، وقلوبنا راضية ومجمّلة بالنُّور الواحد الذي ينسكب علينا وعليهم بالنّعمة الواحدة التي ينالونها وننالها. هذه هي المشاركة الكبرى.
هذه الأرض لا تعطي شراكة بين الناس، تعطي محاولة للاشتراك، محاولة للمحبّة. غير أنّ شراكتنا حقيقيّة مع الذين نقلهم ربّهم إلى وجهه. هناك انقطعت مصالحهم ووقفت شهواتهم؛ يتمتّعون بالحبّ الذي يَسكِبه الله عليهم ونحن بذلك مُتعزّون.
نستهلّ اليوم مسرّة القداسة بالإيمان المسيحيّ وبنعمة الله ورحمته.
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
الرسالة: عبرانيّين ١١: ٣٣-٤٠، ١٢: ١-٢
يا إخوة إنّ القدّيسين أجمعين بالإيمان قهروا الممالك وعملوا البرّ ونالوا المواعد وسدّوا أفواه الأسود، وأطفأوا حدّة النار ونجوا من حدّ السيف، وتقوّوا من ضعف وصاروا أشدّاء في الحرب وكسروا معسكرات الأجانب، وأخذت نساء أمواتهنّ بالقيامة، وعُذّب آخرون بتوتير الأعضاء والضرب، ولم يقبلوا بالنجاة ليحصلوا على قيامة فضلى، وآخرون ذاقوا الهزء والجلد والقيود أيضًا والسجن، ورُجموا ونُشروا وامتُحنوا وماتوا بحدّ السيف، وساحوا في جلود غنم ومعزٍ وهم مُعوَزون مُضايَقون مَجهودون، ولم يكن العالم مستحقًّا لهم، فكانوا تائهين في البراري والجبال والمغاور وكهوف الأرض. فهؤلاء كلّهم، مشهودًا لهم بالإيمان، لم ينالوا الموعد لأنّ الله سبق فنظر لنا شيئًا أفضل أن لا يَكْمُلوا بدوننا. فنحن أيضًا إذ يُحدِقُ بنا مثلُ هذه السحابة من الشهود فلنُلْقِ عنّا كلّ ثقلٍ والخطيئةَ المحيطةَ بسهولة بنا، ولنُسابق بالصبر في الجهاد الذي أمامنا، ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمّله يسوع.
الإنجيل: متّى ١٠: ٣٢-٣٣، ٣٧-٣٨، ١٩: ٢٧-٣٠
قال الربّ لتلاميذه: كلّ من يعترف بي قدّام الناس أعترف أنا به قدّام أبي الذي في السماوات. ومن يُنكرني قدّام الناس أُنكره أنا قدّام أبي الذي في السماوات. من أحبَّ أبًا أو أمًّا أكثر منّي فلا يستحقّني، ومن أحبّ ابنًا أو بنتًا أكثر منّي فلا يستحقّني. ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقّني. فأجاب بطرس وقال له: هوذا نحن قد تركنا كلّ شيء وتبعناك، فماذا يكون لنا؟ فقال لهم يسوع: الحقّ أقول لكم إنّكم أنتم الذين تبعتموني في جيل التجديد، متى جلس ابنُ البشر على كرسيّ مجده، تجلسون أنتم أيضًا على اثني عشر كرسيًّا تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر. وكلّ من ترك بيوتًا أو إخوة أو أخوات أو أبًا أو أمًّا أو امرأة أو أولادًا أو حقولاً من أجل اسمي يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الأبديّة. وكثيرون أوَّلون يكونون آخِرين وآخِرون يكونون أوّلين.