يسير يسوع إلى مجده. قبلة حياته هي أن يتمجّد الآب في الابن (يوحنّا ١٤: ١٣). ومجد يسوع اعتلن في أن حمل عاهاتنا وخطايانا وتقبّل منّا كلّ شرّ ودفع عنّا، بجسده، آثامنا. هكذا أظهر يسوع أنّ الآب يحبّنا حبًّا عظيمًا وأنّ دافعه هو أن يمجّدنا بالخلاص الذي منحنا إيّاه.
في هذا السياق، بادر يسوع، قبل آلامه، إلى تحضير تلاميذه لهذا الحدث الأخير، أي آلامه، بقوله لهم: «ها نحن صاعدون إلى أورشليم وابن الإنسان يسلَّم إلى رؤساء الكهنة والكتبة فيحكمون عليه بالموت ويسلمونه إلى الأمم فيهزؤون به ويجلدونه ويتفلون عليه ويقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم» (مرقس ١٠: ٣٣-٣٤).
كيف تفاعل التلاميذ مع هذا الإعلان؟ اختار اثنان منهم السير في طريق تمجيد ذواتهم، عبر طلبهما إلى الربّ أن يجلس أحدهما عن يمينه وآخر عن يساره في المجد الذي تصوّراه أنّ الربّ حاصل عليه بدخوله أورشليم دخول الظافرين (مرقس ١٠: ٣٧). يا لهذه المفارقة: يسوع في وادٍ والتلاميذ في وادٍ آخر! آذان لا تصغي، عقول لا تركّز، وقلوب عَمَتها الأمجاد. هذا الأمر أثار حفيظة الجماعة الرسوليّة عليهما (مرقس ١٠: ٤١). هذه الواقعة جرت قبل آلام السيّد. ولكن لا بدّ من التعقيب أنّه، من بعد صعود الربّ إلى السماء، كان ليعقوب ويوحنّا دور قياديّ في الجماعة الرسوليّة.
كيف استدرك يسوع الموقف؟ أدخلهم جميعًا في سرّ التلمذة التي تتحلّى بروح التواضع وروح الوداعة وروح المحبّة الأخويّة. فالموضوع ليس القربى من يسوع سواء الجسديّة أو الجغرافيّة، ولا أيضًا الأمجاد والإنجازات التي قد يتقوقع عليها حاملوها، أو اعتبارات تاريخيّة أو عائليّة أو معنويّة أو كنسيّة يدّعي أولويّتها بعضنا، بل أن يأتي كلّ شيء بروح الربّ ولمجد أبيه.
المدخل إلى هذا السرّ هو حمل أثقال الآخرين بروح يسوع، بروح «الخادم» الذي يتمتّع بالقدرة على التفاني والتضحية بالذات، والقدرة على المسامحة والغفران، وأيضًا بروح «العبد» الذي يتمتّع بالقدرة على احتمال التعيير والذمّ والاحتقار، والقدرة على الوفاء والإخلاص والأمانة للمعلّم. هذا ما قصده يسوع من صورة «الخادم» و«العبد» في معرض معالجة الإشكاليّة الناشئة بين التلاميذ (مرقس ١٠: ٤٣-٤٤).
لم يكتفِ يسوع بهذا القدر من التعليم والإرشاد، بل أفسح المجال لتلاميذه أن يسيروا في إثره، على مثاله وبروحه، عندما حدّث يعقوب ويوحنّا عن صورتَي «الكأس» و«المعموديّة» في معرض نموّهما في الخدمة الرسوليّة (مرقس ١٠: ٣٨-٣٩). فاتّباع يسوع يعني حمل أثقال التجارب على أنواعها («الكأس»)، وكذلك قبول الميتات المختلفة الضروريّة حتّى يبزغ فجر الإنسان الجديد فينا («المعموديّة» أو «الصبغة»).
وجد يسوع أنّ مجد أبيه هو في أن يحبّ تلاميذَه وكلَّ إنسان حتّى النهاية، في خدمة مفتوحة على كلّ الاحتمالات الوخيمة كما ظهر في حديثه عن آلامه وموته. فخدمته هذه ضروريّة لأنّ بها يتعلّق مصيرنا: «لأنّ ابن الإنسان أيضًا لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدُم وليَبذُل نفسه فدية عن كثيرين» (مرقس ١٠: ٤٥). لذا، مَن أراد أن يؤمن بيسوع ويكون له تلميذًا، لا بدّ له من أن يحذو حذو معلّمه من دون بخل أو إبطاء، بحكمة وصبر، بإلهام من الروح وعونه.
لا شكّ في أنّ معالجة يسوع لهذه الواقعة أخجلت التلاميذ لانقيادهم لأنانيّتهم، وساقتهم إلى توبة لم تظهر معالمها إلّا لـمّا أدركوا معنى الفداء الذي صنعه يسوع بآلامه على الصليب. ثمّ ذاقوا بدورهم أتعاب هذه الخدمة وثمارها لـمّا أرسلهم يسوع إلى الكرازة باسمه. هكذا انتقلوا جميعهم من تحقيق أمجاد خاصّة إلى تحقيق مجد يسوع كما عاشه بينهم. وهكذا تعلّمنا أو يجب أن نتعلّم أن يكون.
كم أنّ امتناننا كبير اليوم لكلّ تلاميذ المسيح، عبر العصور وحتّى يومنا، الذين لم يألوا جهدًا لكي يعظوا وينشئوا ويرشدوا ويربّوا لتبقى شعلة الإنجيل مضيئة في سماء البشريّة. هؤلاء هم مثال لنا وشفعاء في مسيرة الخدمة والمحبّة الأخويّة والإخلاص لإنجيل المسيح، وهم يداوون بمراهم الكلمة والمثال الحيّ والأسرار المقدّسة كلّ جنوح أو تعرّج لنا في خدمتنا، حتّى تبقى هذه نقيّة ولمجد الله.
+ سلوان متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
الرسالة: عبرانيّين ٩: ١١-١٤
يا إخوة، إنّ المسيح إذ قد جاء رئيس كهنة للخيرات المستقبلة فبمَسكن أعظم وأكمل غير مصنوع بأيدٍ ليس من هذه الخليقة، وليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل الأقداس مرّة واحدة فوجد فداء أبديًّا، لأنّه إن كان دمُ ثيران وتيوس ورماد عِجلةٍ يُرشُّ على المنَجّسين فيُقدّسهم لتطهير الجسد، فكم بالحريّ دمُ المسيح الذي بالروح الأزليّ قرَّب نفسَه لله بلا عيبٍ يُطهّرُ ضمائركم من الأعمال الميتة لتعبدوا الله الحيّ.
الإنجيل: مرقس ١٠: ٣٢-٤٥
في ذلك الزمان أخذ يسوع تلاميذه الاثني عشر وابتدأ يقول لهم ما سيعرض له: هوذا نحن صاعدون إلى أورشليم، وابنُ البشر سيُسلَم إلى رؤساء الكهنة والكتبة، فيحكمون عليه بالموت ويُسلمونه إلى الأُمم فيهزأون به ويبصقون عليه ويجلدونه ويقتلونه، وفي اليوم الثالث يقوم. فدنا إليه يعقوب ويوحنّا ابنا زبدى قائلَين: يا معلّم، نريد أن تصنع لنا مهما طلبنا. فقال لهما: ماذا تريدان أن أصنع لكما؟ قالا له: أَعطنا أن يجلس أحدنا عن يمينك والآخر عن يسارك في مجدك. فقال لهما يسوع: إنّكما لا تعلمان ما تطلبان. أتستطيعان أن تشربا الكأس التي أَشربها أنا، وأن تصطبغا بالصبغة التـي أَصطبغ بها أنا؟ فقالا له: نستطيع. فقال لهما يسوع: أمّا الكأس التي أَشربها فتشربانها وبالصبغة التي أَصطبغ بها فتصطبغان، وأمّا جلوسُكما عن يميني وعن يساري فليس لي أن أُعطيَه إلّا للذين أُعدَّ لهم. فلمّا سمع العشرة ابتدأوا يغضبون على يعقوب ويوحنّا. فدعاهم يسوع وقال لهم: قد علِمتُم أنّ الذين يُحسَبون رؤساء الأُمم يسودونهم، وعظماءهم يتسلّطون عليهم. وأمّا أنتم فلا يكون فيكم هكذا. ولكن من أراد أن يكون فيكم كبيرًا فليكن لكم خادمًا، ومن أراد أن يكون فيكم أوّل فليكن للجميع عبدًا. فإنّ ابن البشر لم يأت ليُخدَم بل ليَخدم وليبذُل نفسه فِداءً عن كثيرين.
Raiati Archives