تطالعنا في هذا الإنجيل مطالبات متبادلة. فالتلاميذ يطالبون المسيح بأن يصرف الجموع، والمسيح يطالب التلاميذ بالاهتمام بهم. قلّة الوسائل المتاحة أو شحّها لتلبية الحاجة الحاضرة كانت، على ما يبدو، الدافع وراء مطالبة التلاميذ ليسوع. بينما كانت الإمكانيّات المتاحة هي الدافع وراء مطالبة المسيح تلاميذَه بتعهّد أمر الجمع.
بمنظارنا، كان التلاميذ على حقّ. فهم كانوا على بيّنة من الواقع قياسًا إلى الحاجات والموارد. أمّا يسوع فيبدو غريبًا عنها! هي مشكلة تلبية الحاجات التي لا يمكن أن يشفي غليلها أحد. في هذه الواقعة، كانت الحاجة إلى طعام. فالجوع لامس الجموع التي كانت تتبع يسوع، فأنهكها. لا شكّ في أنّ هذا الواقع الأليم وصل إلى مسامع التلاميذ ولربّما تحسّسوه أيضًا، فارتبكوا في كيفيّة التعاطي معه. هل أنهكتهم نظرات الناس، مطالبُهم، توقّعُهم منهم، انتظارُهم إيّاهم أو ضغطُهم المضمور عليهم بشأن حلّ لجوعهم؟ يبدو أنّ التلاميذ لم يجدوا حلًّا أفضل سوى الاستقالة من معالجة الموضوع وتسويق حلّ كان على المسيح أن يقوم بتنفيذه.
رفض المسيح أن يأخذ زمام المبادرة عوضًا من التلاميذ، بل واجههم بخيار الإمكانيّات المتاحة عوضًا من خيار الوسائل الشحيحة، ودعاهم إلى إطلالة جديدة على الواقع يكون لهم فيه دور إيجابيّ ومحوريّ. يبدو أنّ لدى المسيح مُعطى يمكن البناء عليه غير المعطى الذي اكتفى به التلاميذ. وهذا المعطى تدرّج ليشمل ثلاث نواح: أوّلًا، استعادة الرؤية الصحيحة للإمكانيّات والانطلاق منها، أي الخبزات الخمس والسمكتَين؛ ثانيًا، تجديد نظرة التلاميذ في اتّباعهم المسيح وقبولهم بمقتضيات هذه التلمذة؛ وأخيرًا، الوجهة الشكريّة لتعليم يسوع لتلاميذه والتي لخصتها هذه الأفعال الخمسة: «أخذ الأرغفة الخمسة والسمكتَين ورفع نظره نحو السماء وبارك وكسر وأعطى…» (متّى ١٤: ١٩)، وهي الأفعال التي تشكّل في تقليدنا محور سرّ الشكر الإلهيّ.
هكذا نقل الربُّ تلاميذَه من وضعيّة التذمّر من شحّ الإمكانيّات والموارد إلى وضعيّة تثمين الموجود والشكر عليه، كما نقلهم من وضعيّة الانكماش والإحجام عن المبادرة إلى وضعيّة المشاركة والاستعداد للقيام بمبادرة قيّمة ومفيدة، تعبيرًا عن التزامهم بتعليم المسيح. هذا كلّه سمح لهم بإعادة النظر في موقفهم المبدئيّ، فاستعادوا النظر عبر موقف داخليّ مبنيّ على الشكر والرغبة في المشاركة والعطاء والخدمة. هكذا وضعهم يسوع في موضع الانطلاق وحرّرهم من موقع الانطواء.
هذا المعطى الجديد أدركه التلاميذ بالخبرة، عندما قبلوا أمر الربّ بالمشاركة وعدلوا عن موقفهم السلبيّ وتعلّموا منه، ونحن من بعدهم، كيفيّة التعاطي مع الأشياء والأحداث والأشخاص بشكر نرفعه إلى الله من أجلها وبركة نطلبها إليه، واستعداد منّا من أجل أن تستلهم خدمتُنا إرادةَ الله فتعمل على تحقيقها بأفضل النيّات والاستعدادات والإمكانيّات.
لا شكّ في أنّ ضغط الناس وحاجاتهم علينا كبيرٌ ومستمرٌّ، ولربّما يدفعنا هذا الضغط إلى القلق والاستنكاف والضمور في مجال خدمة يقوم بها كلّ بحسب مسؤوليّته. لكنّ دعوة الربّ إلى تلاميذه: «لا حاجة لهم أن يمضوا. أعطوهم أنتم ليأكلوا» (متّى ١٤: ١٦) شكّلتْ بالنسبة إليهم، وبالنسبة إلينا أيضًا، نقطة تحوّل تساعدنا على التحرّر من هذا الضغط الممارَس علينا وتضعنا على سكّة الانطلاق، ولو كانت بحوزتنا موارد هزيلة لا تلبّي الحاجات الآنيّة. هذا التبدّل الداخليّ فينا يسمح لنا بأخذ زمام المبادرة، مبادرة حريّ بها أن تنمو لتأخذ الواقع على عاتقها. هذه هي الخميرة الجديدة التي تخمّر العجين كلّه وتكثر هذا الخبز الذي يشبع كلّ جائع إلى إله يتبنّاه فعلًا بكلّيّته ويحييه!
بالفعل، ما كان الإيمان المسيحيّ لينتشر لولا أنّ تلاميذ المسيح على مرّ العصور لم يأخذوا ما جرى في حادثة تكثير الخبز والسمك على محمل الجدّ، فبدّل فيهم وفينا عتاقتنا ونقلنا إلى جدّة الحياة التي سكبها يسوع فينا وأعطانا نعمة أن نساعد أترابنا على أن يعيشوا خبرة تحريرهم من ضغوطهم، كما خبرناها في المسيح، وأن ينتقلوا إلى تحسّس جديد للواقع، منطلقين من وضعيّة تذمّر وإحجام إلى وضعيّة شكر والتزام، وموظّفين أفضل ما لديهم في خدمة المحبّة، محبّة الله ومحبّة القريب. هيّا بنا إذًا ننطلق من جديد!
سلوان
متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما
جبل لبنان
الرسالة: ١كورنثوس ١: ١٠-١٧
يا إخوة أَطلب إليكم باسم ربّنا يسوع المسيح أن تقولوا جميعكم قولاً واحدًا وألّا يكون بينكم شقاقاتٌ بل تكونوا مكتملين بفكرٍ واحدٍ ورأيٍ واحد. فقد أَخبرني عنكم يا إخوتي أهل خْلُوي أنّ بينكم خصومات، أَعني أنّ كلّ واحد منكم يقول أنا لبولس أو أنا لأبلّوس أو أَنَا لِصَفَا أو أنا للمسيح. ألعلّ المسيحَ قد تجزّأ. ألعلّ بولس صُلِب لأجلكم، أو باسم بولس اعتمدتم. أشكر الله أنّي لم أُعمّد منكم أحدًا سوى كرسبُس وغايوس لئلّا يقول أحدٌ إنّي عمّدتُ باسمي؛ وعمّدتُ أيضًا أهل بيت إستفاناس؛ وما عدا ذلك فلا أَعْلَم هل عمّدتُ أحدًا غيرهم لأنّ المسيح لم يُرسلني لأُعمّد بل لأُبشّر لا بحكمة كلامٍ لئلّا يُبطَل صليب المسيح.
الإنجيل: متّى ١٤: ١٤-٢٢
في ذلك الزمان أبصر يسوع جمعًا كثيرًا فتحنّن عليهم وأبرأ مرضاهم. ولمّا كان المساء، دنا إليه تلاميذه وقالوا: إنّ المكان قفرٌ، والساعة قد فاتت، فاصرف الجموع ليذهبوا إلى القرى ويبتاعوا لهم طعامًا. فقال لهم يسوع: لا حاجة لهم إلى الذهاب، أَعطوهم أنتم ليأكلوا. فقالوا له: ما عندنا ههنا إلّا خمسة أرغفة وسمكتان. فقال لهم: هلمّ بها إليّ إلى ههنا. وأمر بجلوس الجموع على العشب. ثمّ أخذ الخمسة الأرغفة والسمكتين ونظر إلى السماء وبارك وكسر، وأَعطى الأرغفة لتلاميذه، والتلاميذُ للجموع. فأكلوا جميعهم وشبعوا ورفعوا ما فضُل من الكِسَر اثنتي عشرة قفّةً مملوءةً. وكان الآكلون خمسة آلاف رجلٍ سوى النساء والصبيان. وللوقت اضطرّ يسوعُ تلاميذه إلى أن يدخلوا السفينة ويسبقوه إلى العَبْرِ حتّى يصرف الجموع.
Raiati Archived
كلمة الراعي
من التذمّر والإحجام إلى الشكر والالتزام