كلّنا نخطئ وكلّنا خطأة بآن. كيف لك، والحال هكذا، أن تتعاطى مع ذاتك ومع القريب ومع الله بشكل صحيح وبنّاء ومفيد ومبارك بعين هؤلاء الثلاثة؟ ما هي المرجعيّة التي تعتمدها وما هو المعيار الذي تتّبعه لتحقّق هذا المبتغى؟ هذا نكتشفه في مَثَل الفرّيسيّ والعشّار الذي نفتتح به فترة التريودي، عبر تصوير الربّ لنا واقع هذَين الرجلَين عبر الصلاة التي تفوّها بها في الهيكل في الوقت عينه.
يعدّد الفرّيسيّ المآثر التقويّة التي يقوم بها من صوم وتعشير، ويرفق ذلك، لا بل يفتتحه، بشكر ملغوم يتناول فيه اختلافه ونقاوته وبرّه بالمقابلة مع أتراب له يقوّمهم بعبارات تبخيسيّة: «لستُ مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة»، كما مع قريب يصلّي معه مشيرًا إليه بشكل تحقيريّ: «ولا مثل هذا العشّار». لم يعر الله اهتمامًا قطّ! فما هي المنطلقات التي يعتمدها يا تُرى في تقويمه هذا؟ المنطلق الأوّل هو أنّه مرجعيّة لذاته، والمنطلق الثاني هو أنّ برّه الذاتيّ هو المعيار الذي يستخدمه في تقويم سلوكه وتقواه وسلوك الآخرين وتقواهم، وذلك بغضّ النظر عن نزاهة هذه المرجعيّة أو تجرّدها، أو صوابيّة هذا المعيار أو لا. هذا كلّه حصل في الهيكل وقت الصلاة!
يقتصد العشّار في الكلام فتقتصر صلاته على ما يعتمل في قلبه من معرفة لنفسه ومعرفة لرحمة الله. يتنهّد ببساطة وانسحاق: «أللّهمّ ارحمني أنا الخاطئ». رمى بنفسه أمام الله وامتدّ إليه بخشوع وإحساس عميق لافتقاره لأعمال صالحة أو برّ يقدّمها تقدمة مرضيّة لله. لم يكن لديه ما يقدّمه أفضل من نفسه الخاطئة. وضعها بين يدَي الله، وحسنًا فعل!
لقد اكتفى الفرّيسيّ بتجميل نفسه ببرّه الشخصيّ متباهيًا بنفسه وبمنجزاته وتفوّقه على غيره. انتشى بالقليل الذي لديه فلم يعرف ذاته حقّ المعرفة. واستعاض عن الله كمرجعيّة مطلقة وعن إرادة الله كمعيار مطلق، في عمليّة فحص ذاته وفي تدريب نفسه على التقوى. لقد أقصاه كلّيًّا عن مرمى الصلاة، أي في الوقت الذي كان مفترضًا فيه أن يناجيه هو، لا أن يناجي نفسه! فصل نفسه عن الله، وانفصل عن الجماعة التي يصلّي معها! ما أبشعها من خطيئة مثلّثة، بحقّ نفسه وبحقّ قريبه وبحقّ الله!
أمّا العشّار فقد أتى إلى الهيكل من «دون لفّ ولا دوران». ذهب إلى المبتغى مباشرة من دون أن يستر عرْيَه. طرح قضيّته، وجعه، ألمه، معاناته. عبّر بأجمل بيان عن واقع كلّ منّا عبر ما يعانيه هو! كان واقفًا في حضرة الله، ولو «وقف من بعيد لا يشاء أن يرفع عينَيه نحو السماء بل قرع صدره». بقي ملتصقًا بالجماعة، فلم يسعَ إلى فرز نفسه عنها أو إقصائها عن أترابه بسبب خطيئته. احتمل الوقوف إلى جانب مَن يعتبرون أنفسهم أبرارًا ومَن يحقِّرون أمثاله علنًا، خصوصًا في الهيكل، من دون أن ينبس ببنت شفة. قبل العار الآتي من خطيئته والعار الآتي من تحقير الفرّيسيّ له. هذا بقي صامدًا أمام تجربة
التخلّي عن البرّ الذي يأتي من الله. لقد جعل بالحقيقة اللهَ مرجعه المطلق وإرادة الله معياره المطلق في صلاته.
في النهاية، أظهر الله وقْع صلاة كلّ من هذَين الرجلَين: أعرض عن الأولى وقبل الثانية. رفض نهج الأوّل وشجّع منطلق الثاني؛ شذّب عجرفة الأوّل ومدّ الثاني بالمداد للاستمرار في سعيه. أمام هذه النهاية، نفطن إلى واقعنا الروحيّ مع ذواتنا وضمن الجماعة، سواء من جهة ثرثرتنا الدائمة بعضنا على بعض، أو حكمنا المبرم والنهائيّ في شأن سلوكيّات غيرنا، أو اعتبار برّنا الشخصيّ، وحتّى الجماعيّ، مصدر قوّة وحقّ لتصويب الأحكام على مَن هم «حقيرون» في نظرنا، لأنّنا نعتبرهم أدنى منّا حكمة أو تقوى أو فهمًا أو روحانيّة أو نزاهة أو مرتبة أو شأنًا. هلّا قطعنا هذه المسافة التي تبعدنا عن مشيئة الله وتبعد عنّا روحه عبر إعادة نظر جذريّة إلى ذهنيّتنا وسلوكيّتنا عبر توبة مستوحاة من تنهّد العشّار في حضرة الله وخشوعه؟
سلوان متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
الرسالة: ٢تيموثاوس ٣: ١٠-١٥
يا ولدي تيموثاوس إنّك قد استقريتَ تعليمي وسيرتي وقصدي وإيماني وأناتي ومحبّتي وصبري واضطهاداتي وآلامي، وما أصابني في أنطاكية وإيقونية ولسترة، وأيّة اضطهادات احتملتُ وقد أنقذني الربّ من جميعِها، وجميعُ الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطهَدون. أمّا الأشرار والمُغوُون من الناس فيزدادون شرًّا مُضِلِّين ومُضَلَّين. فاستمرّ أنت على ما تعلّمته وأَيقنتَ به عالمًا ممّن تعلّمت وأنّك منذ الطفوليّة تعرف الكتب المقدّسة القادرة على أن تُصيّرك حكيمًا للخلاص بالإيمان بالمسيح يسوع.
الإنجيل: لوقا ١٨: ١٠-١٤
قال الربّ هذا المَثَل: إنسانان صعدًا إلى الهيكل ليُصلّيا، أحدهما فرّيسيّ والآخر عشّار. فكان الفرّيسيّ واقفًا يصلّي في نفسه هكذا: «أللّهمّ إنّي أَشكرُك لأنّي لستُ كسائر الناس الخَطَفة الظالمين الفاسقين ولا مثل هذا العشّار، فإنّي أصوم في الأسبوع مرّتين وأُعشّر كلّ ما هو لي». أمّا العشّار فوقف عن بُعدٍ ولم يُرِدْ أن يرفع عينيه إلى السماء، بل كان يقرع صدره قائلًا: «أللّهمّ ارحمني أنا الخاطئ». أقول لكم إنّ هذا نزل إلى بيته مبرّرًا دون ذاك، لأنّ كل مَن رفع نفسه اتّضع، ومَن وضع نفسه ارتَفَع.
كلمة الراعي
مرجعيّتنا ومعيارنا
في تقويم صلاتنا وسلوكنا