منذ نزول الروح القدس بشكل ألسنة ناريّة على التلاميذ في العنصرة، توالت عمليّة صيد واسعة في أرجاء المعمورة، مع توالي الأيّام والسنين والأجيال، قام بها من استناروا بنعمة الروح القدس. هذا جاء استكمالًا لعمل الربّ يسوع مع مَن دعاهم إلى امتهان صيد الناس، كما حصل مع زوجَي الإخوة الأوّلَين، بطرس وأندراوس فيعقوب ويوحنّا (متّى ٤: ١٨-٢٢). هؤلاء، وسواهم معهم ومن بعدهم، اصطادوا العالم بشباك النعمة وعلّمونا أن نمتهن مهنة الصيد هذه. فما قوام هذه «المهنة» الروحيّة الجديدة؟ إليكم بعض أوجهها.
يصطاد الرسولُ العالمَ إلى التوبة وإلى الإيمان بالإنجيل: «توبوا وآمنوا بالإنجيل» (مرقس ١: ١٥)، وهذا يعني استدارة كاملة للإنسان من الظلمات إلى النور، من الأرض إلى السماء، من الذات إلى الله.
ويصطاد الرسولُ العالمَ إلى الإيمان بالبشرى الجديدة التي حملها إلى الجنس البشريّ الـمُرسَلُ السماويّ، ابن الله الوحيد. وهذا يعني أن نؤمن بالمسيح الربّ وبالكشف الذي حمله، الكشف الوحيد الذي بمقدوره أن يحوّل الإنسان من ترابيّته إلى ابن لله.
ويصطاد الرسولُ العالمَ إلى معرفة ذاك الذي نزل من السماء والذي بمستطاعه أن يشهد لنا عن حقائق السماء، عن الله والحقائق الروحيّة الموجودة في العالم الروحيّ المحيط به وبمَن هم حوله: «إنّنا إنّـما نتكلّم بما نعلم ونشهد بما رأينا» (يوحنّا ٣: ١١). إنّها شهادة يسوع عن خبرة حقيقيّة على المستوى الروحيّ.
ويصطاد الرسولُ العالمَ إلى الإيمان بالمسيح وبكلّ كلمة تفوّه بها. فكلمته هي السبيل الوحيد إلى بلوغ معرفة الحقيقة التي تخصّ الله وتخصّ الإنسان وعالمنا. أَلم يقل يسوع: «أنا هو الحقّ» (يوحنّا ١٤: ٦)؟ فهو لم يقلْ: «أنا هو نصف الحقيقة»، بل «أنا هو الحقّ». وهو قال أيضًا: «أنا هو نور العالم» (يوحنّا ٨: ١٢). لذا، فهو كلّ الحقيقة وكلّ النور. وهناك ما هو أكثر، فهو الطريق الوحيد نحو الحياة الأبديّة، لأنّه الوحيد الذي يعرف الله: «أنتم لستم تعرفونه (أي الآب)، أمّا أنا فأعرفه، وإذا قلتُ إنّي لستُ أعرفه، أكون مثلكم كاذبًا» (يوحنّا ٨: ٥٥).
ويصطاد الرسولُ العالمَ إلى اقتناء الروح القدس إذ إنّ قصد الله أن يصير المؤمن به هيكلًا له: «… أم لستم تعلمون أنّ جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي هو فيكم، الذي لكم من الله» (١كورنثوس ٦: ١٩). وحيث هو الله الروح القدس، هناك أيضًا الله الآب، وهناك أيضًا الله الابن، الثالوث القدّوس، غير المنقسم والمحيي.
ويصطاد الرسولُ العالمَ إلى أن يحيوا بالله ويتحرّكوا ويوجدوا به (أعمال ١٧: ٢٨)، بحيث يصير الله هو العامل فيهم: «لأنّ الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرّة» (فيليبّي ٢: ١٣). فهم، عندما ينكرون ذواتهم، يتركون لله المجال ليفكّر عنهم، ويحبّ عبرهم، ويفعل عبرهم (١كورنثوس ٢: ١٦، ١٥: ١٠). فيهم يتحقّق قول الربّ: «لستم أنتم المتكلّمين بل روح أبيكم الذي يتكلّم فيكم» (متّى ١٠: ٢٠)، وفيهم أيضًا تتجلّى «قوّة الله وحكمته» (١كورنثوس ١: ٢٤). على هذا النحو صارت الكلمة الإنجيليّة دواء وغذاء للعديد من الخطأة الذين سمعوها وسلكوا طريق الحقيقة والحياة الأبديّة.
ويصطاد الرسولُ العالمَ إلى الاتّحاد بالله. وهذا يتحقّق بشكل مباشر عبر تناول جسد المسيح ودمه، وعبر الصلاة. كلّما ساهمنا في القدسات، نجدّد كلّ كياننا ونحوّله إلى المسيح، فنلبسه (١كورنثوس ١٠:٦-١٧؛ غلاطية ٣: ٢٧-٢٨؛ ٤: ١٩). أمّا ثمرة الصلاة فهي أن تكون النفس في صلة دائمة مع الله، الأمر الذي يشعل القلب بمحبّة لله.
ويصطاد الرسولُ العالمَ إلى ولادة جديدة، تلك التي تكون فيها الكنيسة أمّنا. وعبر هذه الأمومة، نكتشف اتّحادنا العضويّ كشعب لله على الأرض بشعب الله في السماء، فنحتفل بـمَن أظهرهم الله أبناء له، ونؤمن بعمل المسيح الذي تحقّق فيهم وبتمجيده إيّاهم. أَلم يقل الربّ: «إن لم تؤمنوا بي، آمنوا بالأعمال» (يوحنّا ١٠: ٣٨)؟
هذه كلّها هي أعمال الله المجيدة وهي تحقّقت بالذين دعاهم إلى صيد البشر بواسطة شباك الإنجيل والنعمة الإلهيّة. على شاكلة يسوع، كانوا يعلّمون ويكرزون ببشارة الملكوت ويشفون كلّ مرض وكلّ ضعف (متّى ٤: ٢٣). هذا هو المدى الذي يعطينا الربّ أن نمتدّ فيه ليمتدّ بنا إلى سوانا، من مدانا الشخصيّ إلى مدى البشريّة كلّها، حتّى يكون في ملكوته هو الكلّ في الكلّ (١كورنثوس ١٥: ٢٨). فما أعظم أعمالك يا ربّ، كلّها بحكمة صنعتَ (مزمور ١٠٣: ٢٤)!
+ سلوان متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
الرسالة: رومية ٢: ١٠-١٦
يا إخوة، المجد والكرامة والسلام لكلّ من يفعل الخير، من اليهود أوّلًا، ثمّ من اليونانيّين، لأن ليس عند الله محاباة للوجوه. فكلّ الذين أخطأوا بدون الناموس فبدون الناموس يهلكون، وكلّ الذين أخطأوا في الناموس فبالناموس يُدانون، لأنّه ليس السامعون للناموس هم أبرارًا عند الله بل العاملون بالناموس هم يُبرَّرون. فإنّ الأمم الذين ليس عندهم الناموس إذا عملوا بالطبيعة بما هو في الناموس فهؤلاء وإن لم يكن عندهم الناموس فهُم ناموس لأنفسهم، الذين يُظهرون عمل الناموس مكتوبًا في قلوبهم وضميرُهم شاهد وأفكارهم تشكو أو تحتجّ في ما بينها يوم يدينُ اللهُ سرائر الناس بحسب إنجيلي بيسوع المسيح.
الإنجيل: متّى ٤: ١٨-٢٣
في ذلك الزمان فيما كان يسوع ماشيًّا على شاطئ بحر الجليل، رأى أخوين وهما سمعان المدعوّ بطرس وأندراوس أخوه يُلقيان شبكة في البحر (لأنّهما كانا صيّادَين). فقال لهما: هلمّ ورائي فأَجعلكما صيّادَي الناس. فللوقت تركا الشباك وتبعاه. وجاز من هناك فرأى أخوين آخرين وهما يعقوب بن زبدى ويوحنّا أخوه في سفينة مع أبيهما زبدى يُصلحان شباكهما فدعاهما. وللوقت تركا السفينة وأباهما وتبعاه. وكان يسوع يطوف الجليل كلّه يُعلّم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفي كلّ مرض وكلّ ضعف في الشعب.
Raiati Archives
كلمة الراعي