منذ أن ألقى يسوع بذور الدعوة إلى التوبة، كان التحدّي أن تجد لها أرضًا خصبة تستقبلها، فتنمو وتزهر وتثمر ثمارًا تليق بصاحب الدعوة وبكرامة مَن يقبلها. هذا التحدّي نجح مرّات وفشل مرّات أخرى. والسبب في ذلك لا يعود إلى صاحب الدعوة بل إلى متلقّيها، إلى كلّ واحد منّا. فيسوع، كما يظهر في حادثة توبة زكّا، يلاقي كلّ مبادرة ويتلقّفها ويثمّنها بشكل فريد، ويؤمّن المناخ الأفضل لكلّ استعداد صالح ويدفع به إلى كماله.
وجد المسيح في بيت زكّا مكانًا يرتاح إليه ويريح أهل البيت وهو الذي «ليس له أين يسند رأسه» (متّى ٨: ٢٠). فهو لم يدخل بيت قريب أو صديق أو أحد التلاميذ، بل منزل رئيس العشّارين، بيت خاطئ كبير. هناك عاين كيف تنمو بذار دعوته وتنضج وتثمر في مَن كان أقلّ الناس احتمالًا لتقبّلها.
ما الذي جذب يسوع إلى طلب الدخول إلى هذا البيت فدعا نفسه إليه؟ إنّها رغبة زكّا الجامحة في رؤيته. فزكّا، وهو رجل يحتلّ مركزًا كبيرًا في الشأن العامّ، لم يتردّد في أن يعرّض نفسه للسخرية والتنمّر والتهكّم من قبل الرأي العامّ ليحقّق رغبته هذه. لقد احتمل الخجل مرّتَين: الأولى بسبب قصر قامته، والثانية بصعوده إلى الجمّيزة! كان عليه أن يخجل بالحقيقة من أمر ثالث، وهو الأدهى، وينتصر عليه شأن انتصاره على الخجلَين الأوّلَين: إنّه الخجل من فساد أخلاقه وما تسبّب به من سوء وظلم وقهر. هذا كان الداعي الذي دفع بيسوع إلى دخول بيت زكّا.
لا شكّ في أنّ رغبة يسوع في خلاص هذا الخاطئ الكبير جعلته هو نفسه يحتمل التعيير، إذ تذمّر الجمع لأنّه دخل ليبيت في بيت رجل خاطئ. عيّروه بطريقة تضرب عرض الحائط صلب رسالته وعنوان كرازته العلنيّة، ألا وهي دعوة الناس إلى التوبة. كان عليه، من جهة، أن يحتمل الخاطئ حتّى يتوب إليه، ومن جهة أخرى، أن يصبر على الذين يعيّرون سعيه في هذا السبيل، حتّى يروا ثمار كرازته على أرض الواقع عساهم يتبنّونها. لقد وفّر للجميع كلّ المناخ اللازم لتثمر في نفوسهم ثمار التوبة ويشّع عبرهم الفرح بالخلاص.
عند هذا المنعطف، تستوقفنا الحميّة التي أظهرها زكّا في كلّ مواقفه. فهو أوّلًا ركض متقدّمًا الجموع وصعد إلى الجمّيزة لرؤية يسوع، وبعدها أسرع ونزل منها لـمّا دعاه يسوع إلى استقباله في منزله وبين أهل بيته. وأخيرًا، بادر، من دون سابق إنذار، ومن دون تطبيل وتهليل، إلى الإعلان عن عزمه على تغيير مسار حياته عبر تصحيح أفعاله بردّ مال الظلم واتّخاذ موقف المحامي عن المساكين بإعطائه إيّاهم نصف أمواله. فتحوّل من ظالم إلى محامٍ عمّن ظلمهم، هذا بالإضافة إلى التعويض عليهم ممّا جناه بغير وجه حقّ منهم.
يتوَّج المشهد كلّه بالفرح. هذا بدأ أوّلًا في قلب زكّا عندما ركض ليستقبل يسوع في بيته، ثمّ عبّر عنه يسوع عندما أفصح عن الخلاص الذي حصل لأهل بيت زكّا، وأخيرًا، امتدّ إلى كلّ شعب الله بإشارته إلى إبراهيم نفسه. هوذا ابن من صُلْبه بات عشيرًا للمسيح وتلميذًا حبيبًا إليه، لا بل بشيرًا بالتوبة بمثاله وحاملًا قوّتها وسرّها أمام أترابه وأمامنا.
هذا كلّه حصل لسبب وحيد: أنّ يسوع جاء ليطلب ما قد هلك. إنّها الوديعة التي يتركها يسوع لنا لنطلّ بها على خدمتنا وتربيتنا وإرشادنا ووعظنا وأبوّتنا ورُبطنا، التي نعيشها في عائلاتنا ورعايانا وأديرتنا كما في خدمتنا وأنشطتنا. فهل نأخذ هذه الوديعة من جديد ونعيد بها قراءة واقعنا الشخصيّ وواقع خدمتنا، فنشحذ همّتنا في توبة تطال الواقعَين معًا؟
سلوان متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)
الرسالة: ١تيموثاوس ٤: ٩-١٥
يا إخوة، صادقة هي الكلمة وجديرة بكلّ قبول. فإنّا لهذا نتعب ونُعيّر لأنّا ألقينا رجاءنا على الله الحيّ الذي هو مخلّص الناس أجمعين ولا سيّما المؤمنين. فوصِّ بهذا وعلّم به. لا يستهن أحد بفُتُوّتك بل كنْ مثالًا للمؤمنين في الكلام والتصرّف والمحبّة والإيمان والعفاف. واظب على القراءة الى حين قدومي وعلى الوعظ والتعليم. ولا تهمل الموهبة التي فيك التي أُوتيتَها بنبوءة بوضع أيدي الكهنة. تأمّل في ذلك وكنْ عليه عاكفًا ليكون تقدّمك ظاهرًا في كلّ شيء.
الإنجيل: لوقا ١٩: ١-١٠
في ذلك الزمان فيما يسوع مجتاز في أريحا إذا برجل اسمه زكّا كان رئيسًا على العشّارين وكان غنيًّا. وكان يلتمس أن يرى يسوع من هو، فلم يكن يستطيع منَ الجمع لأنّه كان قصير القامة. فتقدّم مسرعًا وصعد إلى جمّيزة لينظره لأنّه كان مزمعًا أن يجتاز بها. فلمّا انتهى يسوع إلى الموضع رفع طَرْفه فرآه فقال له: يا زكّا أَسرع انزل فاليوم ينبغي لي أن أَمكُث في بيتك. فأَسرع ونزل وقَبِله فرحًا. فلمّا رأى الجميع ذلك تذمّروا قائلين: إنّه دخل ليحلّ عند رجل خاطئ. فوقف زكّا وقال ليسوع: ها أنذا يا ربّ أُعطي المساكين نصف أموالي، وإن كنتُ قد غبنتُ أحدًا في شيء أَرُدّ أربعة أضعاف. فقال له يسوع: اليوم قد حصل الخلاص لهذا البيت لأنّه هو أيضًا ابنُ إبراهيم، لأنّ ابن البشر إنّما أتى ليطلب ويُخلّص ما قد هلك.