جمال الإنسان في المحبّة التي يسكبها من دون أن يراقب ما يفعل، لا سيّما حينما تنفتح عيناه على الآخرين ويعي حاجاتهم على أنواعها ولا يوفّر جهدًا، صغيرًا كان أم كبيرًا، ليقدّم ما أوتي في سبيل بلسمة هذه النفوس وتغطية حاجة لديهم. هذا يفعله المرء عندما يخرج من ذاته ولا يبقى مرتبكًا بحاجاته. شعوره وتحسّسه بآلام الآخرين ومعاناتهم يدفعانه إلى التخفيف من وطأتها عليهم. هذا هو معنى إنجيل الدينونة الذي نقرأه على مشارف الصوم الكبير. فيه يلفتنا الربّ إلى درجة إلتفاتتنا إلى الآخرين وكيفيّة وضع مواهبنا ومواردنا ومقدّراتنا في سبيل إنقاذ أو مساعدة أو عضد مَن تعترض حياتهم سبيلنا.
من اللافت كيف أنّ الأزمات والضيقات تفتح مدارك الإنسان على أفق يتجاوز حاجاته الشخصيّة وكيفيّة بلورة إدراك ووعي جديدَين لحياتنا بارتباطها بحياة الآخرين. المسائل التي يطرحها علينا إنجيل الدينونة عن حاجة الجائع إلى الطعام، والعطشان إلى الشرب، والمريض والسجين إلى الافتقاد، هي نماذج لا تختصر الواقع الإنسانيّ كلّه من حيث معاناته وآلامه وحاجات الإنسان هنا وثمّة.
المخاض الذي نعيشه في لبنان ساعدنا في الكنيسة على فهم أكبر لهذا الإنجيل. كانت حاجتنا الأولى أن نفتح قنوات الصلاة والتأمّل في الكلمة الإلهيّة والإطلال عبرها على واقع الأحداث في لبنان. شهدتُ في كنائس الأبرشيّة كيف تمكّن الشباب والعائلات والكهنة من أن يعبّروا عن رأيهم ومواقفهم من الأحداث القائمة من دون أن ترتفع نبرة أصواتهم على بعضهم البعض أو أن يقاطع الواحد الآخر أو أن ينفعل على سجيّته، الأمر الذي طالما يميّزنا في طريقة التعاطي مع مثل هذه المواضيع الساخنة وينغّص سلام أفراد العائلة الواحدة، والمؤسّسة والواحدة والفرقة الواحدة والرعيّة الواحدة. هذه كانت درجة أولى صعدوها معًا، وأقصد الذين شاركوا في حلقات الصلاة والحوار هذه. عَبَروا امتحان الالتفاتة الصحيحة الواحد نحو الآخر، مع ما يعني ذلك من إصغاء وتعقّل وضبط للنفس ورحابة صدر. هذا حصل في مناخ عامّ في لبنان تلوّن بالغليان والانفعال والقلق والتحسّب للأسوأ.
الدرجة الثانية كانت امتحان التعاضد والتعاون بين مَن يحملون آراء مختلفة وحتّى متناقضة. فكانت «خطّة السامريّ الصالح» الامتحان الذي اجتازه أبناء الأبرشيّة خلال صوم الميلاد الفائت، حينما التفتوا إلى حاجات الآخرين بعناية. سابقًا كانت المساعدات تأتي بفضل أنشطة ريعيّة تقوم بها الرعايا من أجل تكوين صندوق يمكن صرف محتواه لشراء الحاجيات المطلوبة وتوزيعها على العائلات. لقد فاق تجاوب المؤمنين اليوم ما قاموا به في صوم الميلاد للعام ٢٠١٨. لا بل قاموا بخطوة جديدة وهي مساعدة الرعايا الواحدة للأخرى، لا سيّما تلك التي تحمل على منكبَيها أثقالًا أكثر من سواها. لقد أظهروا درجة تعاضد وتعاون كبيرة. وقمنا بحملة للدعم المدرسيّ من ضمن هذه الخطّة تجاوب معها المؤمنون، بحيث كان مجمل حصيلة ما جُمع يقارب ما جُمع في فترة الصوم الكبير من العام الفائت.
في اتّجاه التعاضد هذا ومناخ السلام والوحدة الذي يعكسه، لمستُ عند شبيبتنا كلامًا عن تحسّس جديد لواقعهم وواقع أترابهم وواقع الوطن عمومًا ليس مألوفًا بالمقابلة مع ظروف صعبة عصفت بلبنان سابقًا.
«تعلّمنا أن ننتبه أكثر إلى حاجات مَن هم أكثر حرمانًا وعوزًا منّا»؛ «أريد أن أبقى أنا ورفيقاتي في لبنان لنعمل هنا ويكون لنا ولغيرنا فرصة عمل فيه»؛ «علينا أن ننتبه إلى الفتنة بيننا وإلى تلك التي تأتي من الخارج علينا».
إنّ درجات الوعي التي صعدها العديد من أصحاب هذه الشهادات ودرجات الالتزام التي رافقتها جعلت من عطيّة كلّ منهم محطّة رجاء واعد يساعدنا على إعطاء إنجيل الدينونة بُعدًا معاصرًا وآنيًّا ما كنتُ لأدركه لولاهم وبفضلهم. هل برأيكم يمكن للمسيح أن يقول لهؤلاء، إن ثابروا في مسعاهم حتّى النهاية، يوم الدينونة: «تعالوا إليّ يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المعدّ لكم، لأنّكم …» (متّى ٢٥: ٣٤)، كما فعل مع الخراف عن اليمين؟ هلّا أولينا علامات الرجاء هذه بيننا عنايتنا واهتمامنا وانتباهنا، ومضينا بها قدمًا تحقيقًا لمتطلّبات الإنجيل، أي متطلّبات المحبّة التي توصي بأن «أحببْ قريبك كنفسك» (متّى ٢٢: ٣٩)؟ هيّا بنا إذًا ننجح في امتحاننا الثالث: أن نشدّد أواصر التعاضد بيننا فنكوّن شبكة تعاضد تقينا الاستسلام والعوز والوحدة، فنمدّ دعوة الإنجيل إلى مجالات حياتنا، لا سيّما في الشدائد الكبرى، من دون خجل أو تردّد!
سلوان متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
الرسالة: ١كورنثوس ٨: ٨-١٣، ٩: ١-٢
يا إخوة إنّ الطعام لا يُقرّبنا إلى الله، لأنَّا إن أكلنا لا نزيد وإن لم نأكل لا ننقص. ولكن انظروا ألّا يكون سلطانكم هذا معثرة للضعفاء، لأنّه إن رآك أحدٌ، يا من له العلْم، متّكئًا في بيت الأوثان، أفلا يتقوّى ضميرُه وهو ضعيفٌ على أكل ذبائح الأوثان، فيَهلك بسبب علْمك الأخُ الضعيف الذي مات المسيحُ لأجله. وهكذا إذ تُخطئون إلى الإخوة وتجرحون ضمائرهم وهي ضعيفة إنّما تُخطئون إلى المسيح. فلذلك إن كان الطعام يُشكّكُ أخي فلا آكل لحمًا إلى الأبد لئلّا أُشكّك أخي. ألستُ أنا رسولًا؟ ألستُ أنا حرًّا؟ أما رأيتُ يسوع المسيح ربّنا؟ ألستم أنتم عملي في الربّ؟ وإن لم أكن رسولًا إلى آخرين فإنّي رسول إليكم، لأنّ خاتم رسالتي هو أنتم في الربّ.
الإنجيل: متّى ٢٥: ٣١-٤٦
قال الربّ: متى جاء ابنُ البشر في مجده وجميعُ الملائكة القدّيسين معه، فحينئذ يجلس على عرش مجده، وتُجمع إليه كلّ الأمم، فيُميّز بعضَهم من بعض كما يميّز الراعي الخراف من الجداء، ويُقيم الخراف عن يمينه والجداء عن يساره. حينئذ يقول الملكُ للذين عن يمينه: تعالوا يا مبارَكي أبي رثوا المُلْك المُعدّ لكم منذ إنشاء العالم لأنّي جُعـتُ فأطعمتموني وعطشتُ فسقيتموني وكنتُ غريبًا فآويتموني وعريانًا فكسوتموني ومريضًا فعُدتموني ومحبوسًا فأَتيتم إليّ. حينئذ يُجيبه الصدّيقون قائلين: يا ربّ متى رأيناك جائعًا فأطعمناك أو عطشانَ فسقيناك، ومتى رأيناك غريبًا فآويناك أو عريانًا فكسوناك، ومتى رأيناك مريضًا أو محبوسًا فأتينا إليك؟ فيُجيب الملك ويقول لهم: الحقّ أقول لكم بما أنّكم فعلتم ذلك بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي فعلتموه. حينئذ يقول أيضًا للذين عن يساره: اذهبوا عنّي يا ملاعين إلى النار الأبديّة المُعدّة لإبليس وملائكته، لأنّي جعتُ فلم تُطعموني وعطشتُ فلم تسقوني وكنتُ غريبًا فلم تأووني وعريانًا فلم تكسوني ومريضًا ومحبوسًا فلم تزوروني. حينئذ يُجيبونه هم أيضًا قائلين: يا ربّ متى رأيناك جائعًا أو عطشانَ أو غريبًا أو عريانًا أو مريضًا أو محبوسًا ولم نخدمك؟ حينئذ يجيبهم قائلًا: الحقّ أقول لكم بما أنّكم لم تفعلوا ذلك بأحد هؤلاء الصغار فبي لم تفعلوه. فيذهب هؤلاء إلى العذاب الأبديّ، والصدّيقون إلى الحياة الأبديّة.