يعرض علينا يسوع في حادثة شفاء المفلوج بوصلة لاستخدامها في اتّجاهات متعدّدة، بحسب قدرة إبحار كلّ منّا واستعداده الداخليّ ورغبته في الحصول على صيد وفير. كيف يكشف لنا يسوع عن هذه البوصلة في علاقته مع المفلوج والذين أحضروه إليه، ومع الكتبة الذين راقبوا مجرى الأحداث والجموع الحاضرة؟ ماذا كان ردّ فعل الذين تلقّوا عرض يسوع؟ ما هي الاتّجاهات التي أشارت إليها بوصلته؟ فلنتأمّل في اتّجاهاتها:
اتّجاه البوصلة الأوّل هو مرجعيّتنا. يوجّه يسوعُ ببوصلته أنظارنا إلى الله، فهو القادر على كلّ شيء. هذا فهمناه من قول يسوع للمفلوج بصيغة المبنيّ للمجهول، أي صيغة التورية الكتابيّة التي تُستعمَل للإشارة إلى الله: «مغفورة لك خطاياك» (متّى ٩: ٢). فالأهمّ دومًا وأبدًا هو أن نطلب الله قبل كلّ شيء وأن تكون مصالحتنا معه هي نقطة بداءة كلّ شيء. أَوَليس هذا التذكير في مكانه اليوم، أمام تقاعسنا الكبير والنامي والمتمادي في عدم إيلاء الفراغ الروحيّ الذي فينا العناية اللازمة، وبحثنا الوحيد عن البُعد المادّيّ للأزمة القائمة؟
أمّا اتّجاه البوصلة الثاني فهو إيماننا بالله. يسوعُ يوجّه قوانا الداخليّة نحو تفعيل إيماننا، فهو الصلة التي تجعلنا قائمين في حضرة الله الحاضر دومًا من أجلنا. هذا نستدلّ عليه من تشجيع يسوع للمفلوج على الثبات في استعداده الحسن: «ثقْ يا بنيَّ» (متّى ٩: ٢)، وذلك رغم الواقع المرير الذي يعيش فيه، أو ربّما لأنّه بالضبط رازح تحته وليس بمقدوره تغييره بمفرده. هل بمقدورنا يا تُرى أن تشجّعنا كلمات يسوع للمخلّع على أن نتمالك أنفسنا من التهوّر ومجاراة محيطنا في حالة الإحباط التي يعيشها أو اليأس الذي يصيبه؟
وهاكم الاتجاه الثالث للبوصلة: إنّه سلّم أولويّاتنا. يضع لنا يسوع أولويّاتنا في الحياة على أساس أسبقيّة الروحيّات على المادّيّات. ها هو يساعد الحاضرين على أن يرفعوا أنظارهم نحو العُلى عوضًا من أن تبقى مسمّرة نحو أسفل، ويعطي الصدارة لشفاء الروح على شفاء الجسد. هوذا وجه المفاضلة الذي عبّر عنه: «أيّما أيسر أن يُقال: مغفورة لك خطاياك أم أن يُقال: قمْ وامشِ؟» (متّى ٩: ٥). فهل يجدر بنا بعد اليوم أن ننحصر بطلب المادّيّات وأن نغفل عن طلب الروحيّات أو أن نطلبها بدرجة ثانويّة باهتة؟
أمّا اتّجاه البوصلة الرابع فهو قلب الإنسان الخفيّ. يهمّ يسوع أن نطلّ على حالة قلبنا الداخليّة وأن نميّز نوعيّة الأفكار فيه وأن نعمل على تنقيته مـمّا لا يتلاءم والصلاح الذي ينتظره الله منّا. كشف يسوعُ هذه الحالة لدى الكتبة في طريقة قراءتهم عمل الله واعتقادهم الراسخ بأن يسوع يجدّف عندما منح الغفران للمفلوج: «لماذا تفكّرون بالشرّ في قلوبكم؟» (متّى ٩: ٤). أَلعلّه لدينا نحن أيضًا أفكار مشابهة في مقاربتنا واقعنا وطريقة تدخّل الله فيه أو عدم تدخّله فيه؟ أَلعلّ أفكارًا كهذه هي التي تشكّل في العمق الحاجز الكبير أمام رفع الصلاة من القلب وتجرّنا نحو مهوار روحيّ يزيد من تعبنا وإنهاك ما تبقّى من قوانا؟
وأخيرًا الاتّجاه الخامس للبوصلة يكمن في شهادتنا اليوميّة. يرغب يسوعُ في أن نستخدم بوصلته في معيشتنا وشهادتنا اليوميّة. فهناك بيت القصيد، وهناك وجّه يسوعُ المفلوجَ ليعيش عطيّة الحياة الجديدة التي حصل عليها: «قمْ احملْ فراشك واذهبْ إلى بيتك» (متّى ٩: ٦). وجب على المفلوج أن يشهد هناك حيث قضى سابقًا طريح الفراش لكيما تصير بوصلة الحياة التي قدّمها يسوع عطيّة لغيره تنطلق من محيطه الضيّق إلى أوسع منها، والتي رأينا براعمها بما اعتملت نفوس الجموع إثر الحادثة: «فلـمّا رأى الجموع تعجّبوا ومجّدوا الله الذي أعطى الناس سلطانًا مثل هذا» (متّى ٩: ٨). فمتى يأتي دورنا للانتقال من دور المفلوج المحمول إلى يسوع إلى دور المؤمن المرسَل من يسوع، ومن دور المراقِب الذي يدين عمل الله إلى دور الممجِّد لهذا العمل، ومن دور المتفرّج على آلام الآخرين إلى دور المساعِد إيّاهم على احتمالها وتخطّيها؟
أعطانا يسوع البوصلة التي تحتاج إليها نفوسنا حتّى تخرج من بلادتها الروحيّة وعدم إحساسها بخطيئتها، وتكوّن تاليًا قوّتها الروحيّة الآتية من الإيمان به والمستندة إليه والفاعلة به، وتجد في تشجيعه («ثقْ يا بنيّ») ونعمته («مغفورة لك خطاياك») وإرساله إلينا من جديد («اذهبْ إلى بيتك») طريقة لتجسيد تدبيره في حياتنا وحياة أترابنا، ولو أتيناه في وهن شديد (كالمفلوج)، ولو تعرّضنا لوابل من الانتقاد أو التهكّم أو التشكيك في قدرة الله وصلاحه («هذا يجدّف»)، مؤمنين بقدرة الجماعة التي تحتمل ضعفاتنا وشاكرين لها سعيها في أن تقدّمنا إلى المسيح كما نحن في وهننا («وإذا مفلوج يقدّمونه إليه»).
بالعمق، يسوع هو بوصلتنا! هلّا شكرنا من القلب جميع مَن لهم الفضل علينا، في السماء وعلى الأرض، في تعب وصبر وصلاة وتفانٍ، يومًا بعد يوم، في العلن والخفاء، في تأديب وتشجيع، الذين يقدّمون لنا البوصلة ويقدّموننا للمسيح حتّى نقوم إلى الحياة الجديدة فيه؟
+ سلوان متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
الرسالة: رومية ١٢: ٦-١٤
يا إخوة إذ لنا مواهب مختلفة باختلاف النعمة المعطاة لنا فمن وُهب النبوءة فليتنبّأ بحسب النسبة الى الإيمان٠ ومن وُهب الخدمة فليلازم الخدمة، والمعلّم التعليم، والواعظ الوعظ، والمتصدّق البساطة، والمدبّر الاجتهاد، والراحم البشاشة. ولتكن المحبّة بلا رياء. كونوا ماقتين للشرّ وملتصقين بالخير، محبّين بعضُكم بعضًا حبًّا أَخويًّا، مبادرين بعضُكم بعضًا بالإكرام، غير متكاسلين في الاجتهاد، حارّين بالروح، عابدين للربّ، فرحين في الرجاء، صابرين في الضيق، مواظبين على الصلاة، مؤاسين القدّيسين في احتياجاتهم، عاكفين على ضيافة الغرباء. باركوا الذين يضطهدونكم. باركوا ولا تلعنوا.
الإنجيل: متّى ٩: ١-٨
في ذلك الزمان دخل يسوع السفينة واجتاز وجاء إلى مدينته. فإذا بمخلّع ملقًى على سرير قدّموه إليه. فلمّا رأى يسوع إيمانهم، قال للمخلّع: ثق يا بنيّ، مغفورة لك خطاياك. فقال قوم من الكتبة في أنفسهم: هذا يُجدّف. فعلم يسوع أفكارهم فقال: لماذا تفكّرون بالشرّ في قلوبكم؟ ما الأيسر، أن يقال مغفورة لك خطاياك، أم أن يقال قم فامشِ؟ ولكن لكي تعلموا أنّ ابن البشر له سلطان على الأرض أن يغفر الخطايا،
حينئذ قال للمخلّع: قم احمل سريرك واذهب إلى بيتك. فقام ومضى إلى بيته. فلمّا نظر الجموع تعجّبوا ومجّدوا الله الذي أَعطى الناس سلطانًا كهذا.
Raiati Archives