...

كلمة الراعي الواقع الجديد وقوّة الدفع الجديدة

شمس العدل الذي أشرق في الميلاد ينشر نوره على البشريّة كلّها بظهوره في الأردنّ باعتماده فيه. هذا ما توخّى الإنجيليّ متّى تسطيره بتبنّيه نبوءة أشعياء: «الشعب الجالس في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا والجالسون في كورة الموت وظلاله أشرق عليهم نور» (٤: ١٦)، مقابلًا بين واقع البشريّة الميؤوس منه والتغيير النهائيّ الذي يحدثه حضور الربّ في التاريخ البشريّ.

أن يكون المسيح نورًا لنا يعني، بما انكشف لنا عبر التدبير الإلهيّ، أنّه يدخل في حوار ومعيّة وشركة معنا، ملتزمًا واقعنا الراهن، على اختلاف حقب التاريخ البشريّ التي انطبعت بصبغة الإنسان المتغرّب عن الله. أمّا الآن، فبات الله، بتجسّد ابنه، حاضرًا في التاريخ البشريّ والواقع الإنسانيّ. ومَن آمن به يعرف كيف يتعهّدنا، كأخصّاء وأحبّاء، ويضع نفسه عنّا ومن أجلنا، ويرفعنا من واقعنا إليه، ويدعونا إلى أن نرفع واقعنا بارتفاعنا إليه. منحنا واقعًا جديدًا حين أنشأ تلاحمًا وشركة ومعيّة منقطعة النظير بينه وبيننا، وأعطانا في هذا السبيل أن تكون لنا قوّة دفع جديدة لتحقيق هذا الواقع الجديد والثبات فيه.

عبّر يسوع عن هاتَين الحقيقتَين في انطلاق كرازته العلنيّة في العبارة المحوريّة التي يوجّهها إلينا: «توبوا لأنّه قد اقترب ملكوت السماوات» (متّى ٤: ١٧). فاقتراب ملكوت الله يعني إمكانيّة تحقيق شركة حيّة ودائمة بين الله والإنسان. أمّا دعوته إيّانا إلى التوبة فتمثّل قوّة الدفع التي بها نوجّه بها ذواتنا دومًا نحو هذه الشركة مع الله. فالـمُعطى الإلهيّ، أي الشركة معه (ملكوته)، يقابلها الـمُعطى البشريّ، أي رغبتنا في أن نكون في شركة معه، وأن نسعى إليها عبر تغيير كلّ سلوك وذهنيّة لا يتوافقان مع طبيعة هذه الشركة مع الله، والتي أساسها المحبّة الحقّ، محبّته هو ومحبّة القريب على حدّ سواء.

دعوة يسوع هذه تأخذ كلّ معناها عندما تكون المعاناة كبيرة، سواء على المستوى الشخصيّ أو الجماعيّ. المحن الكبرى، وإن كانت مؤلمة، هي غربال مفيد وصالح لتنقية النفوس، فقد اعتدنا سلوكيّة وذهنيّة معيّنة ولا ننتبه إلى مساوئها، أو نعيها لكنّنا لا نسعى إلى تغييرها بداعي الكسل أو قلّة الإيمان أو التماهي مع حياة عموم الناس، وتقليد طريقة تفكيرهم وحياتهم.

اتّضح لي، عبر خبرات سمعتها في رعايا هذه الأبرشيّة وأديارها، كم أنّ الضائقة الاقتصاديّة الحاليّة هي سبب في تغيير سلوك الناس باتّجاهَين، سلبيّ وإيجابيّ. مَن سلك الاتّجاه الثاني، كانت له التفاتة إلى الذات كبيرة وسعى إلى تغيير نمط حياة مبنيّ على الاستهلاك والرفاهيّة، ونما لديه حسّ المشاركة مع الأكثر حرمانًا منه، بشعور قلبيّ أكبر من ذي قبل. وبات هناك وعي جماعيّ أكبر لضرورة التضامن بين أبناء العائلة الواحدة والرعيّة الواحدة والأبرشيّة الواحدة. وبرزت الحاجة أكثر إلى تضافر الجهود والمبادرات والقوى لمواكبة المخاض الحاليّ الذي يعيشه الجميع.

الظروف الحاليّة ولّدت فينا قوّة دفع جديدة. فقد استعضنا عن الانشغالات الثانويّة والسطحيّة، بانشغالات تعبّر عن المحبّة الفعليّة، التي هي غاية حياة التوبة. هكذا اضطرّتنا الضائقة الحاليّة إلى أن نحسن عيش إيماننا ودعوة يسوع إلينا، فصرنا أكثر طاعةً للكلمة الإلهيّة وتقديرًا لضرورة اجتماع المؤمنين حولها

وحول أعمال المحبّة. فكلّما زدنا غورًا في هذا الاتّجاه كلّما اكتشفنا وجه المسيح بيننا، وأنّ ملكوته حاضر فينا. ما أحلى أن تعتلن في محاولاتنا هذه، في هذه الظروف الصعبة، إمارات هذا الملكوت، تحقيقًا لقول الربّ: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم» (متّى ١٨: ٢٠)، لأن «ها ملكوت الله داخلكم» (لوقا ١٧: ٢١)!

سلوان متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)

 

الرسالة: أفسس ٤: ٧-١٣

يا إخوة لكلّ واحد منّا أُعطيت النعمة على مقدار موهبة المسيح. فلذلك يقول: لمّا صعد إلى العلى سبى سبيًا وأعطى الناس عطايا. فكونه صعد، هل هو إلاّ أنّه نزل أوّلاً إلى أسافل الأرض؟ فذاك الذي نزل هو الذي صعد أيضًا فوق السماوات كلّها ليملأ كلّ شيء، وهو قد أَعطى أن يكون البعضُ رسلاً والبعض أنبياء والبعض مبشّرين والبعض رعاة ومعلّمين، لأجل تكميل القدّيسين ولعمل الخدمة وبنيان جسد المسيح، إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدة الإيمان ومعرفة ابن الله، إلى إنسان كامل، إلى مقدار قامة ملء المسيح.

 

الإنجيل: متّى ٤: ١٢-١٧

في ذلك الزمان لمّا سمع يسوع أنّ يوحنّا قد أُسلم، انصرف إلى الجليل وترك الناصرة وجاء فسكن في كفرناحوم التي على شاطئ البحر في تُخوم زبولون ونفتاليم، ليتمّ ما قيل بأشعياء النبيّ القائل: أرض زبولون وأرض نفتاليم، طريق البحر، عبر الأردنّ، جليل الأمم. الشعب الجالس في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا والجالسون في بقعة الموت وظلاله أشرق عليهم نور. ومنذئذ ابتدأ يسوع يكرز ويقول: توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كلمة الراعي

الواقع الجديد وقوّة الدفع الجديدة