تحلّق حول بركة «بيت حسدا» عدد من الذين يبحثون عن انطلاقة جديدة في حياتهم، بسبب منa ضعف جسديّ يعانونه. بين هؤلاء تميّز، على ما يبدو، مخلّع منذ ثمانٍ وثلاثين سنة. هذا لاحظه يسوع فبادر إليه بالسؤال: «أتريد أن تبرأ؟» (يوحنّا ٥: ٦). بالطبع هو سؤال مفروغ منه، لكنّ المخلّع لم يبخل بشرح حالته: «يا سيّد، ليس لي إنسان يلقيني في البركة متى تحرّك الماء. بل بينما أنا آتٍ، ينزل قدّامي آخر» (يوحنّا ٥: ٧). لا شكّ في أنّ هذا الإنسان عانى الوحدة والعجز وغياب المساعدة الأخويّة. لكنّ هذا الواقع لم يجعله يستسلم، بل ثابر في الانتظار والمحاولة بأن يلقي بنفسه في الماء أوّلًا متى حرّكه ملاك. لربّما تعزّى، وهو على هذه الحال، بشفاء الآخرين قبله، وصبر مجاهدًا إلى أن تحين ساعته، فكان خير شاهد على صلاح الله الحاصل والآتي بآنٍ، وكان خير مَن يترجّى رحمة الله ويعيش مشيئته من جهته طيلة هذه الفترة الطويلة!
هذا الاستعداد الداخليّ الكبير لدى المخلّع وجد في أمر يسوع – «قمْ. احملْ سريرك وامشِ» (يوحنّا ٥: ٨) – الطاقة ليقف على قدمَيه ويحمل «الصليب» الذي كان مستلقيًا عليه ردحًا من الزمن. لِـمَ أصغى هذا المخلّع إلى يسوع؟ ربّ قائل إنّ أعضائه استعادت عملها السليم بفعل الأمر الذي تلقّاه المخلّع من يسوع. فكان من الطبيعيّ أن ينهض ويعاود المشي كما لو لم يكنْ مخلّعًا مطلقًا! بدت هذه «القيامة» طبيعيّة للمخلّع، لأنّ يسوع جعلها كذلك، إلى درجة لم يفطن معها المخلّع إلى أن يشكر شافيه ولا أن يسأل عن هويّته. هكذا كان محمولًا بنعمة الله وهكذا بدت عطيّةُ الله طبيعيّة في حياته!
حدوث هذه القيامة شكّل مخالفة فادحة في عين حرّاس الناموس، لأنّها حصلت يوم سبت! هذا الأمر دفع بـمَن كان مخلّعًا قبلًا وبات صحيحًا الآن ليبحث عن الذي شفاه وأمره بحمل سريره. فمَن التقاه قبلًا عند باب المدينة، وجده الآن في الهيكل. هناك اختار أن يعتزل واضعُ الناموس من الجمع، ومن هناك سيُسمع المخلّعَ الإعلان حول الناموس الجديد الذي يجدر بالإنسان معرفته والمحافظة عليه من الآن فصاعدًا: «ها أنت قد برئتَ، فلا تخطئ أيضًا، لئلّا يكون لك أشرّ» (يوحنّا ٥: ١٤). هكذا يستطيع الإنسان أن يحافظ على عطيّة الله المجّانيّة.
الحقّ يُقال إنّ الوقوف على القدمَين والسير وحمل السرير كانوا واجهة لما هو أعمق من شفاء الجسد ولما كان يطلبه المخلّع. فقد ترافق وشفاء النفس، فبات إنسانًا جديدًا. حصل على أكثر من فرصة جديدة، حصل على الحياة الحقّ. ولم يقتصر الأمر على استعادة الحركة الجسديّة بل تعدّاه إلى الحكمة التي يجب أن يحوزها للعيش وفق مقتضى الحياة الحقّ. فالحياة الجديدة يحيق بها خطر مميت بحال سقطنا في الخطيئة. لذا على المؤمن أن يقتني هذه الحكمة طيلة حياته!
حسنًا فعل المخلّع بأن أبلغ مُسائليه من اليهود عن هويّة الذي أبرأه. هل فعل هذا من أجل رفع المسؤوليّة عن نفسه وتبرئتها؟ أم أراد أن يكون شاهدًا أمامهم على قيامة حدثت في حياته؟ أَتُرى أراد أن يواجه حُـماة السبت بربّ السبت؟ أم اشتهى أن يحظوا بدورهم بشرف معرفة مَن منحه الحياة الجديدة؟ لقد توارى يسوع، لكنّه ترك المجال لرسول جديد بأن يكون بشيرًا حيًّا بالقادر على أن يمنح الشفاء للمتعَبين، والغفران للخطأة، والقيامة للموتى، والتعزية للمحزونين، والشجاعة للمتردّدين، والثقة للخجولين.
في النهاية، هل لاح لنا فجر حياة جديدة؟ لا شكّ في أنّ الأمر مرتبط بقدرتنا على الإصغاء إلى المسيح الذي يأمر فننهض، ويهَب فنأخذ، ويعلّم فنتّعظ، ويفصح عن هويّته فنكرز به. وهو مرتبط بالحرص والانتباه على الحياة الجديدة، وبتنمية استعداد موافق لقبولها، وبتوفير مناخ مناسب للاستمرار فيها. كانت هذه الهبة مجهولة قبلًا من قبل المخلّع، لكنّها منذ انكشفت له، باتت معلومة لدينا. فحقّ المخلّع علينا هو ألّا نتجاهلها، وإلّا كنّا في جهل ما بعده جهل، ووقعنا في توانٍ ما بعده توانٍ، حتّى يحقّ للعارف أن يقول: هذا هو الخطأ بعينه الذي، إذا حصل، يكون السبب في «أن يصيبنا ما هو أشرّ»! هلّا انتبهنا إذًا إلى هذه السقطة المميتة، خصوصًا اليوم، وخصوصًا نحن؟
+ سلوان متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
الرسالة: أعمال الرسل ٩: ٣٢-٤٢
في تلك الأيّام فيما كان بطرس يطوف في جميع الأماكن، نزل أيضا إلى القدّيسين الساكنين في لدّة، فوجد هناك إنسانًا اسمه أينياس مضّجعًا على سرير منذ ثماني سنين وهو مخلَّع. فقال له بطرس: يا أينياس يشفيك يسوع المسيح، قم وافترش لنفسك، فقام للوقت. ورآه جميع الساكنين في لدّة وسارون فرجعوا إلى الربّ. وكانت في يافا تلميذة اسمها طابيتا الذي تفسيره ظبية، وكانت هذه ممتلئة أعمالًا صالحة وصدقات كانت تعملها. فحدث في تلك الأيّام أنّها مرضت وماتت، فغسلوها ووضعوها في العلّيّة. وإذ كانت لدّة بقرب يافا، وسمع التلاميذ أنّ بطرس فيها، أرسلوا إليه رجلين يسألانه ألّا يُبطئ عن القدوم إليهم. فقام بطرس وأتى معهما. فلمّا وصل صعدوا به إلى العلّيّة، ووقف لديه جميع الأرامل يبكين ويُرينَه أقمصة وثيابًا كانت تصنعها ظبية معهنّ. فأخرج بطرسُ الجميع خارجًا وجثا على ركبتيه وصلّى. ثمّ التفت إلى الجسد وقال: يا طابيتا قومي. ففتحت عينيها، ولمّا أَبصرتْ بطرس جلست. فناولها يده وأنهضها. ثمّ دعا القدّيسين والأرامل وأقامها لديهم حيّة. فشاع هذا الخبر في يافا كلّها، فآمن كثيرون بالربّ.
الإنجيل: يوحنّا ٥: ١-١٥
في ذلك الزمان صعد يسوع إلى أورشليم. وإنّ في أورشليم عند باب الغنم بركة تسمّى بالعبرانيّة بيت حَسْدا لها خمسة أروقة، كان مضّجعًا فيها جمهور كثير من المرضى من عميان وعُرج ويابسي الأعضاء ينتظرون تحريك الماء، لأنّ ملاكًا كان ينزل أحيانًا في البركة ويُحرّك الماء، والذي ينزل أوّلًا من بعد تحريك الماء كان يُبرأ من أيّ مرض اعتراه. وكان هناك إنسان به مرض منذ ثمان وثلاثين سنة. هذا إذ رآه يسوع ملقى، وعلم أنّ له زمانًا كثيرًا، قال له: أتريد أن تبرأ؟ فأجابه المريض: يا سيّد ليس لي إنسان متى حُرّك الماء يُلقيني في البركة، بل بينما أكون آتيًا ينزل قبلي آخر. فقال له يسوع: قم احمل سريرك وامش. فللوقت برئ الرجل وحمل سريره ومشى. وكان في ذلك اليوم سبت. فقال اليهود للذي شُفي: إنّه سبت فلا يحلّ لك أن تحمل السرير. فأجابهم: إنّ الذي أبرأني هو قال لي: احملْ سريرك وامشِ. فسألوه: من هو الإنسان الذي قال لك احمـلْ سريرك وامشِ؟ أمّا الذي شُـفي فلم يكن يعلم من هو، لأنّ يسوع اعتزل إذ كان في الموضع جمع. وبعد ذلك وجده يسوع في الهيكل فقال له: ها قد عوفِيْتَ فلا تعُدْ تخطئ لئلّا يُصيبك أشرّ. فذهب ذلك الإنسان وأخبر اليهود أنّ يسوع هو الذي أبرأه.
Raiati Archives