في الحوار الذي دار بين يسوع وإنسان مجرّب له لمناسبة سؤال طرحه عليه هذا الأخير: «ماذا أعمل لأرث الحياة الأبديّة؟»، كشف يسوع النقاب عن خبرته القائمة على تسليمه الكلّيّ لمشيئة الله، القائم، من جهة، على فقر طوعيّ كلّيّ، فهو مَن «ليس له أين يسند رأسه» (لوقا ٩: ٥٨)، ومن جهة أخرى، على تحقيق وصايا الله، بحيث كان ينمو في القامة والنعمة أمام الله وجميع الشعب (لوقا ٢: ٥٢). لكنّ إشارة يسوع إلى محدّثه: «بعْ كلّ شيء لك، ووزّعْه على المساكين، فيكون لك كنز في السماء، وتعالَ اتبعْني»، جعلت هذا الأخير يغادره حزينًا «لأنّه كان غنيًّا جدًّا» (لوقا ١٨: ١٨ و٢٣). إلّا أنّ ما كشفه يسوع أجاب عن بحث عدد من المسيحيّين على مرّ العصور فتمثّلوا هذه الخبرة واختبروا قوّتها. فماذا يعني عمليًّا التسليم الكلّيّ لله؟
التسليم الكلّيّ لله يعني أن تتّكل عليه أكثر من الاتّكال على ذكائك ومعارفك وإمكانيّاتك، فهو أهل للثّقة أكثر من سواه بما لا يُقاس، وهو قادر على أن يرشدك إلى ما هو صالح وموافق لك إن عقدتَ العزم على أن تصنع مشيئته في حياتك. أَليس هذا هو المقصود بالتشبيه الذي يستعمله في قوله: «مَن لا يَقبل ملكوت الله مثل ولد فلن يدخله» (لوقا ١٨: ١٧)؟
التسليم الكلّيّ لله يعني أن تقيم في سلام النفس. فالاتّكال عليه يقودك إلى أن تقبل كلّ شيء يأتيك على أنّه آتٍ إليك منه. لذا تسعى إلى أن تنزع عنك وشاح الاضطراب والقلق والخوف مـمّا يحدث معك، فهو حاصل بمعرفته أو سماحه، وهو مُخرج لك منه بالتأكيد ما هو لخلاصك. فالاتّكال على الله يقود نفسك إلى أن تقيم في السلام الآتي من الله والذي لا يُنزع منك (لوقا ١٠: ٤٢).
التسليم الكلّيّ لله يعني أن تعتصم بالصبر حتّى تتحقّق وعود الله في حياتك وحياة سواك. قد تتأخّر ساعة الله بالقياس إلى ساعتك في تحقيق ما تنتظره منه أو طلبتَه إليه. فالإنسان يشعر عمومًا بقصر الوقت والحياة، ويرغب في تحقيق الأمور على الفور أو بسرعة. لذا تتعلّم النفس أن تقيم في الانتظار الواثق غير المتسرّع أو المتطلّب أو الشاكي، إلى أن تدقّ ساعة الله في كلّ ما تصبو إليه، على مثال سمعان الشيخ (لوقا ٢: ٢٥).
التسليم الكلّيّ لله يعني أن تَقبل ألّا تتمتّع بكلّ الخيرات في هذه الحياة، فالحياة لا تنتهي هنا، إذ هي عبور إلى الملكوت الآتي. لذا لا بدّ من أن تقبل الحقيقة بأنّك لن تتمتّع بالخيرات كلّها ههنا، بل بالحريّ أعددْ نفسك لتتمتّع بخيرات الله التي أعدّها لك في الحياة الأبديّة. كنْ أكيدًا من ذلك، فهو القائل: «فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيّدة، فكم بالحريّ أبوكم الذي في السماوات يهب خيرات للذين يسألونه» (متّى ٧: ١١) أو «يعطي الروح القدس للذين يسألونه» (لوقا ١١: ١٣).
التسليم الكلّيّ لله يعني أن تبذل نفسك على الدوام، بحسب المثال الذي أوصانا به يسوع: «لأنّي أعطيتكم مثالًا، حتّى كما صنعتُ أنا بكم تصنعون أنتم أيضًا» (يوحنّا ١٣: ١٥). هكذا تتبعه وتبقى متّحدًا به، في الشدّة والضيقات والفقر والظلم،
فتفرح بالصليب الذي يعطيك أن تحمله، وأنت متأكّد من أنّك ستكون معه في مجده. أَليس هذا ما يشير إليه يسوع بقوله: «ليس التلميذ أفضل من المعلّم ولا العبد أفضل من سيّده» (متّى ١٠: ٢٤)؟
التسليم الكلّيّ لله يعني أن تتواضع من جهة ذاتك، أو حاجاتك، أو استحقاقك للأشياء أو للمكافأة، أو أهليّتك للنعمة. هكذا تكتسب قوّة صلاة العشّار ومعرفته لذاته: «اللّهمّ ارحمْني أنا الخاطئ» (لوقا ١٨: ١٣)، وتختبر قوّة الله التي تبرّرك وترفعك وتلبّيك وتعينك.
التسليم الكلّيّ لله يعني أن تقيم في شكر الله على إحساناته، وفي تمجيده على عنايته بك وبالخليقة كلّها من دون انقطاع، وفي تسبيحه على صلاحه ومحبّته. هكذا تختبر في نفسك فعل لقيا الربّ، سواء في هذه الحياة أم في الآتية، بناء على وعده: «عندكم الآن حزن. ولكنّي سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم» (يوحنّا ١٦: ٢٢).
هذه هي الأوجه السبعة التي اختبرها مَن لا يخشى على نفسه من شيء أو من أحد، فعاش أمام الله بخوف ومحبّة، وأعطانا البرهان أنّ استعدادًا كالذي رأينا معالمه أعلاه مستحيل تحقيقه لو لم يؤمن صاحبه من القلب بقول الربّ: «غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله» (لوقا ١٨: ٢٧). هلّا شكرنا مثل هؤلاء الذين اغتنوا بالله، فهم يرشدوننا ويعينوننا ويشفعون فينا في طريق سعينا إلى أن نرث الحياة الأبديّة؟
+ سلوان متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
الرسالة: أفسس 14:2-22
يا إخوة، إن المسيح هو سلامُنا، هو جعل الإثنين واحدًا ونقض في جسده حائط السياج الحاجز اي العداوة، وأبطل ناموس الوصايا في فرائضه ليَخلُقَ الاثنين في نفسه إنسـانًا واحـدًا جـديدًا بإجـرائه السـلام، ويُصالح كليهما في جسد واحد مع الله في الصليب بقتله العداوة في نفسه، فجاء وبشّركم بالسلام، البعيدِينَ منكم والقريبين، لأنَّ به لنا كِلينا التوصُّلَ الى الآب في روح واحد. فلستم غرباءَ بعد ونُزلاءَ بل مواطني القديسين وأهل بيت اللـه، وقد بُنيتم على أساس الرسل والأنبياء، وحجر الزاويـة هو يسوع المسيح نفسه، الذي به يُنسق البنيان كلُّـه فينمو هيكلاً مقدّسًا في الرب، وفيه أنتم ايضًا تُبنَوْن معًا مسكنًا لله في الروح.
الإنجيل: لوقا 18:18-27
في ذلك الزمان دنا الى يسوع إنسان مجرّبًـا لـه وقائلًا: أيهـا المعـلّم الصالـح، ماذا أعمل لأرث الحيـاة الأبدية؟ فقال له يسوع: لماذا تدعوني صالحًا، وما صالحٌ الا واحدٌ وهو الله؟ انك تعرف الوصايا: لا تزنِ، لا تقتلْ، لا تسرقْ، لا تشهد بالزور، أكرمْ أباك وأمك. فقال: كلّ هذا حفظتُه منذ صبائي. فلما سمع يسوع ذلك قـال له: واحدة تعوزك بعد. بعْ كلّ شيء لك ووزّعه على المساكين، فيكون لك كنـزٌ في السماء وتعال اتبعني. فلما سمع ذلك حزن لأنه كان غنيًا جـدًا. فلـمّا رآه يسـوع قد حزن قال: ما أَعسر على ذوي الأموال أن يدخلوا ملكوت الله. إنه لأسهل أن يدخـل الجمـل في ثقب الإبرة من أن يدخل غني ملكوت الله. فقال السامعون: فمن يستطيع إذن أن يخلص؟ فقال: ما لا يُستطاع عند الناس مستطاع عنـد الله.
Raiati Archives