ابتدأ الشابّ الغنيّ الذي جاء إلى يسوع حديثه قائلًا: أيّـها المعلّم الصالح مـاذا أعمل لأرث الحياة الأبديّة. ويسوع لا يريد أن يدعوه هذا الرجل معلّمًا صالحًا لأنّه أدرك أنّ الشابّ الذي يُحدّثه كان يظنّ أنّ يسوع مجرّد إنسان وليس إلهًا وكان يجامله، يدعوه صالحًا كما ندعو بعضنا بعضًا بالألقاب حتّى يقبلنا الجميع ونستفيد من لطافة الناس. يسوع يرفض كلّ أنواع المصانعة والمجاملة الكثيرة ولذلك يجيب الشابّ: إن أردتَ أن تدخل الملكوت فاحفظ الوصايا. الوصايا هي طاعة الله وبالطاعة يدخل الإنسان الملكوت.
ثمّ نسمع الرجل يقول للسيّد: كلّ هذا قـد حـفظتُه منـذ صبائي، فـماذا يـنقصني بـعد؟ نفهم من هذا أنّ الرجل متقدّم في الحياة الروحيّة وكامل في أخلاقه على ما يبدو. رغم تمسّكه بالشريعة استطاع أن يسأل المعلّم: ماذا يعوزني بعد؟ وكأنّه كان يشعر بأنّ هناك أمرًا أبعد من ناموس موسى أو أسمى منه. عندئذ أجابه السيّد بكلمة غريبة: إن كنتَ تـريد أن تكون كاملًا فاذهب وبع كلّ شيء لك واعطه للمساكين فيكون لك كنـز في السماء وتعال اتبعني. والسؤال الذي يواجهنا اليوم هو: هل نحن مدعوّون لنترك بيوتنا ونتشرّد على الطرقات لنتبع المعلّم؟ ماذا يعني لنا كلام يسوع اليوم؟
«إن أردت أن تكون كاملًا بعْ كلّ ما لك وتعال اتبعني». هناك أموال تعرقل الناس عن اتّباع المسيح، تكون حاجزًا بين الناس والمسيح. المال الكثير قد يكون حملًا وتجربة خلّابة بحيث يغرق الناس فيه. عندما نعالج قضيّة زوجيّة يشكي الرجل زوجته أحيانًا: عندها كلّ شيء، ماذا تريد؟ يعتقد هذا الرجل أنّ شريكة حياته تكتفي بالمال وتطمئنّ إلى المال، وأنّ المال يحلّ كلّ شيء. هذا ليس بصحيح. المال مهما تكدّس لا يعطي رأفة ولا حنوًّا، وكثيرًا ما يخفّف من الرأفة والحنوّ والصداقة. هناك بالطبع بيننا أناس يظنّون أنّهم يستطيعون أن يشتروا الدنيا ويبيعوها بأموالهم. هذا ليس صحيحًا حتّى على صعيد الأعمال. فالأعمال علاقات شخصيّة أوّلًا وتقوم أوّلًا على حسن المعاملة.
ثمّ نسمع الربّ يقول بصورة جبّارة هادئة: «إنّ مرور الجمل من ثـقب الإبرة لأسهل من دخـول غنيّ ملكوت السماوات». والجمل جمل وثقب الإبرة ثقب الإبرة كما نعلم. وكأنّ ربّنا جعل ملكوت الله للأغنياء مستحيلًا! والحقّ أنّه يقول إنّ الغنى المتكدّس مخالف للعدالة وإنّ العدالة تقضي بتوزيع أموال الأغنياء على الذين لا يملكون شيئًا، وألّا يُهدر الطعام وآلاف الناس لا يأكلون بما فيه الكفاية.
الغنيّ ليس فقط الانسان الذي يملك أموالًا كثيرة. كلمة «الغنيّ» معناها من يستغني. الغنيّ من استغنى عن الله، من استغنى عن الله بالمال، بالجمال، بالذكاء، بالثقافة، بالمراكز، بالسلطة، بالمجد. كلّ هذه إذا تعلّق الإنسان بها تمنعه من دخول الملكوت. ملكوت الله يدخله المتواضعون الذين يفتقرون لربّهم ويعتبرونه كلّ شيء دون سواه.
إذا تجرّدنا من محبّة المال ومن كلّ ادّعاء ومن التعلّق بأيّ شيء منظور، إذا تجرّدنا من كلّ ذلك وجدنا أنفسنا فارغين من كلّ شيء ومستعدّين لقبول الله في قلوبنا. عندما نفتقر إلى حضور الله فينا وقد أفرغنا ذواتنا من كلّ شيء سواه، إذ ذاك نصبح كاملين به «فتعلم الأمم أنّ الربّ مقدّسنا ومكمّلنا» (حزقيال ٣٧: ٢٨). إذ ذاك نبلغ إلى كمال الله.
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
الرسالة: ١كورنثوس ١٥: ١-١١
يا إخوة أُعرّفكم بالإنجيل الذي بشّرتُكم به وقبلتموه وأنتم قائمون فيه، وبه أيضًا تخلصون بأيّ كلام بشّرتكم به إن كنتم تذْكُرون إلّا إذا كنتم قد آمنتم باطلًا. فإني قد سلّمتُ إليكم أوّلاً ما تسلّمته أنّ المسيح مات من أجل خطايانا على ما في الكتب، وأنّه قُبر وأنّه قام في اليوم الثالث على ما في الكتب، وأنّه تراءى لصفا ثمّ للاثني عشر، ثمّ تراءى لأكثر من خمس مئة أخ دفعة واحدة أكثرُهم باقٍ حتّى الآن وبعضُهم قد رقدوا، ثمّ تراءى ليعقوب ثمّ لجميع الرسل، وآخر الكلّ تراءى لي أنا أيضا كأنّه للسقْط، لأنّي أنا أَصغرُ الرسل ولستُ أهلًا لأن أُسمّى رسولًا، لأنّي اضطهدتُ كنيسة الله، لكنّي بنعمة الله أنا ما أنا. ونعمتُه المعطاةُ لي لم تكن باطلة، بل تعبتُ أكثر من جميعهم، ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معي. فسواء كنت أم أولئك، هكذا نكرز وهكذا آمنتم.
الإنجيل: متّى ١٩: ١٦-٢٢
في ذلك الزمان دنا إلى يسوع شابّ وجثا له قائلًا: أيّها المعلّم الصالح ماذا أعمل من الصلاح لتكون لي الحياة الأبديّة؟ فقال له: لماذا تدعوني صالحًا وما صالح إلّا واحد وهو الله؟ ولكن إن كنت تريد أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا. فقال له: أيّة وصايا؟ قال يسوع: لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق، لا تشهد بالزور، أَكرمْ أباك وأُمّك، أَحبب قريبك كنفسك. فقال له الشابّ: كلّ هذا قد حفظتُه منذ صبائي، فماذا ينقصني بعد؟ قال له يسوع: إن كنتَ تريد أن تكون كاملًا فاذهب وبع كلّ شيء لك وأعطه للمساكين فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني. فلمّا سمع الشابّ هذا الكلام مضى حزينًا لأنّه كان ذا مالٍ كثير. فقال يسوع لتلاميذه: الحقّ أقول لكم إنّه يعسر على الغنيّ دخول ملكوت السماوات؛ وأيضًا أقول لكم إنّ مرور الجمل من ثقب الإبرة لأسهل من دخول غنيّ ملكوت السماوات. فلمّا سمع تلاميذه بُهتوا جدًّا وقالوا: من يستطيع إذًا أن يخلص؟ فنظر يسوع إليهم وقال لهم: أمّا عند الناس فلا يُستطاع هذا، وأمّا عند الله فكلّ شيء مستطاع.