قرأنا الأحد الماضي مَثَل الفرّيسيّ والعشار وفيه قوّة التواضع. والتواضع مُتداخل مع ما نقرأ اليوم في مثل الابن الشاطر الذي عرف أعماق خطيئته. كل ذلك موضوع استعدادًا للصوم الذي نطلع فيه أمام عظمة الله ونكشف عن خطايانا حتى نعود عنها إلى وجه الله المنير.
الابن، الذي شطر مال أبيه، كان متضجرًا من حالته. كان يحنّ إلى حياة خارج البيت حيث ظن انه سيحيا كما يريد، ويقرّر مصيره. عاش مع الزواني، حاول أن يعيش طالبًا لذائذ الدنيا، تلك اللذات التي تبدو وكأنها الأفضل. ثم افتقر وقرّر أن يعود. في كثرة من الأوقات يبدو لنا الله متسلطًا، يسجُننا في الوصايا، فيحسب الإنسان انه أَسيرُ الله، ويريد أن يستسلم لشهواته، ويقرّر مصيره وحياته، ويشعر أن حياته بين يديه وليست بين يدي الله. تسوده شهواته وتتحكّم به ويحسّ كأنه صار سيّدًا لنفسه، لأن الخطيئة خادعة وتبدو جميلة وتعطينا الشعور بأنّنا أصحاب الحياة.
لكن سرعان ما نُحسّ بأنها مُرّة ولم تعطِنا كل ما ننتظر وأن حلاوتها تحوّلت إلى يأس. سرعان ما نشعر أننا لم نقبض على شيء، وأننا قبضنا على الريح. ثم نفكر بأن الله لم يكن ظالمًا كما ظننّا، ولعل الحياة طيّبة معه. نحاول العودة كما عاد هذا الابن المبذّر. عاد، وإذا بأبيه ينتظر، ينتظر من بعيد، كأن شُغل أبيه أن ينتظر. شُغل الله ان يتمنّى عودتنا اليه.
كان الأب يتوقّع عودة ابنه كلّ يوم، وعندما جاء ألقى نفسه على عُنق ابنه وما عاتبه، وضمّه اليه. جاءت المبادرة من الأب. المبادرة دائمًا من الله. الله يحبّ أولاً ثم نحسّ نحن فنعود لأنّنا نعرف أنّنا محبوبون. هذا هو سرّ الوجود أن يُدرك الإنسان انّه محبوب من الله. ذبح الأبُ العجلَ المسمَّن وفرح البيت. السماء كلّها تفرح بعودتنا إلى الله.
ثم كان أمر الابن الأكبر مع أبيه. كان الابن الأكبر إنسانًا طيّبًا مستقيمًا عفيفًا لم يبذّر أمواله مع الزواني ولم يخرج من البيت. سأل لماذا عومِلَ الابن السيء معاملة طيّبة، فكان الجواب: كان أخوك ضالاً فوُجد، وكان ميتًا فعاش، ولهذا ينبغي أن نفرح.
هذه حال الأتقياء المتزمّتين مع الخطأة العائدين الذين تابوا. هذه حالنا عندما يكون ذميمٌ في مجالسنا، ونقول: من يكون هذا؟ ومن تكون هذه؟ الخاطئ التائب قد يتبوّأ الزعامة في الكنيسة بعد عودته وقد يكون أشرف الناس.
بعد أسبوعين سندخُل الصوم. كان الصوم فرصة للخاطئين ليتوبوا ويعودوا وفرصة للكنيسة لتُلملم الخطأة. في الكنيسة قتلة أصبحوا قديسين، وفيها مريم المصرية التي كانت زانية فصارت أُمّنا. في الكنيسة جمعٌ من الواقعين في شهواتهم مات المسيح من أجلهم، لذلك التمسناهم كما نلتمس وجه الله.
ونحن، فيما نستعد لشهادة الصوم، جدير بنا أن نعرف أنّنا متساوون في الخطيئة، وعلى كلّ منّا ان يحسب نفسه أوّل الخاطئين. بهذا الشعور سوف نثق انه ليس لأحد منّا حقّ في السماء، الاَّ أنّ الربّ نزل وتطلّع وأحبّ وجمعَ وضمّ إخوته إلى صدره. لذا سوف نركع أمامه مستغفرين وسوف نُعمّد رجوعنا بالدموع حتى لا يبقى في القلب أثر لغير الله.
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
عن “رعيّتي”، العدد 9، الأحد 28 شباط 2016