اليومَ وقفْتُ مسائلةً الإنسانَ… الأبَ!!…
أين أمُّ الأولادِ في حكايةِ… ابنَيكَ؟!…
هل ماتَتْ وهي تلدُ؟! أو ألغَتْ ذكرَها الشّريعةُ، فخبّأتْها في سرِّ الأبِ ونكرانِ الابنَين لوجودِها، يهربُ الابنُ الأصغرُ للتفلُّتِ، أو في سرِّ صمتِ الابنِ الأكبرِ الّذي طمرَ وزنةَ حبِّه، فَكَرِهَ نفسَهُ، تاليًا أباه، وأخيرًا أخاه وأمَّه؟!…
أتتكمَّلُ قصّةُ “العائلةِ”، من دونِ غرفِ الأبِ من دمعِ أمِّهِ ورفيقةِ دربِهِ، لتُنجِبَ حوّاءُ الأولى، الحياةُ البكرُ الّتي سقطتْ بسماعِ صوتِ الحيّةِ مليكةِ الموتِ والشّيطانِ؟!؟… وإذ هربَتْ مطرودةً لتحيا سماعَها في الأرضِ الخارجةِ من الطّوفانِ، استقرّتْ في سماعٍ آخرَ!!!. في وشوشاتِ جسدِها، في ليلِها والنّهارِ، فصارَتْ أمًّا عروسًا لآلهةِ الزّنى أو سيّدةَ العقلِ والمنطقِ المحييها للموتِ وإثباتِ وجودِها في ولدَيها وهما غافلان عنها؟!…
لماذا أسائلُ عن المرأةِ الأمِّ؟!… ما حقّي في إضافةِ عنصرِ حياةٍ أو كلمةٍ على ما لم يأتِ بذكرِهِ يسوع في بعض أمثالِهِ، كما في الفرّيسيّ والعشّار أو في مَثلِ زكّا؟! أو اليومَ في ومع الابنَين الشّاطرَين؟!.
ثمّ صمَتَتْ روحي عن التّسآلِ… وغرِقْتُ في صمتٍ لا جوابَ فيه؟!. وإذ تحرّكَ الوعيُ في أحشاءِ قلبي وعيتُ:
أنَّ الكنيسةَ لم تكنْ قد وُلدَتْ، لتُبثَقَ من جنبِ المسيحِ المطعونِ بحرابِ الشّيطانِ لقتلِهِ وقتلِها فيه…
أو لأنَّ مريمَ العذراءَ والدةَ يسوعَ الإلهِ الكلمةِ، لم تكنْ بعدُ قد جمعَتْ كلَّ مريماتِ الأرضِ ليلدْنَ المسيحَ الطّفلَ المنتظرَ بالرّوح القدسِ، من رحمِ الإلهِ الإنسانِ المتجسِّدِ من بطنِ أمِّهِ مريمَ العذراءِ، لتولِدَ البشريّةُ كلُّها من رحمِ الحنانِ الإلهيِّ والعذريّةِ والطّهرِ، لا من رحمِ السّقوطِ.
* * * * * * *
هكذا وقفَ الأبُ الإنسانُ الّذي هو هو!!…
وقفَ في وسطِ بيتِهِ والبيعةِ مراقِبًا ومنتظرًا… حتّى المنتهى!!.
أعطى ذاتَهُ… منذُ بدأةِ خلقِهِ للإنسانِ ليُمَلِّكَهُ ملءَ الملءِ!!…
أولدَهُ في كفِّ يدِهِ اليُمنى القابضةِ المسكونةَ… أولدَهُ من يدِ إبداعِهِ الإلهيِّ…
ووقفَ قبالةَ مولودِهِ، ابنِهِ الأصغرِ، لينظرَ ذاتَهُ في مرآةِ وجهِ صنوِهِ وقال:
هذا حسنٌ… هذا هو أنا!!. وجهُ “الابنِ” من وجهِ “الأبِ” ليصيرا واحدًا…
وأُعطيَ الابنُ الوجهَ… أُعطيَ الّذي هو… الأنسانُ الألوهةَ بالحبِّ!!.
وصارَ الإنسانُ إلهًا من الإلهِ، إذ أولدَهُ الآبُ من روحِهِ القدّوسِ الحالِّ في بطنِ المرأةِ العذراءِ، أمِّ الكونِ لتُقدِّسَ بنعمةِ اللهِ ما قد هلكَ!!.
في “قصّةِ” الابنَين الأكبرِ والأصغرِ يقفُ الإلهُ الأبُ الإنسانُ، يراقبُ ذريّتَهُ المولودةَ منه، المتمنطقةَ اليومَ، قناعَ الأهواءِ!!.
لكن كان على الإلهِ الأبِ العظيمِ في إبداعِهِ… في آرائِهِ… في أحكامِهِ… أن يقولَ الكلمةَ البكرَ… كان عليه أن يحكمَ في كونِهِ… في شعبِهِ… قبلَ أن يُسلمَ الشّيطانُ ابنَهُ وحيدَهُ، حبيبَهُ، إلى الصّلبِ والتّعذيبِ… إلى الموتِ!!…
كان على الإنسانِ الأبِ أن يحكمَ… أن يقاضيَ… أن ينقّيَ بيدَرَهُ، حقلَهُ المزروعَ قمحًا الباذِرَه هو فيه… ليأكلَ منه كلُّ المارّين السّاعين إلى أورشليمَ الأرضيّةِ، المدينةِ الّتي قتلَتْ إلهَها وسيّدَها، ليصيرَ مأكلَهم من بعدِ جسدِ الرّبِّ ودمِهِ!!.
اليومَ يخطُّ الإلهُ الأبُ الإنسانُ البداءاتِ، ليجمعَ في بيادِرِهِ كلَّ المولودين من روحِ الله، من فكرِهِ، من نفخةِ حياتِهِ في أبنائِهِ، ليصيرَ أبناؤُهُ حملةَ الإلهِ، في برِّهِ، في كينونتِهِ “إنسانًا”، بشرًا مثلَهم لكنّهم تركوه وبدأوا حياتَهم في الأهواءِ ليكمّلوها، لكنّه أعادَهم بالحبِّ بنداءِ القلبِ ليتقدّموا منه لينظروه، فنظرَهم هو بدءًا وناداهم وأولدَهم منه هو جُدُدًا… لا من رحمِ الغواياتِ السّريّةِ والعلنيّةِ الّتي فُطِرَ عليه آدمُ وحوّاءُ في الفردوسِ…
اليومَ الدّينونةُ!!…
ما الفردوسُ بعدَ السّقوطِ؟!. أيعودُ آدمُ وحوّاءُ إلى ما كانا عليه، أم بعد الهربِ من الحضرةِ الإلهيّةِ، يُميتُ الإنسانُ خالقَهُ إذ يلقاهُ على قوارعِ الطّرقاتِ وفي زوايا المعابدِ ومع الأغنياءِ ليحكمَ هو ويصيِّرَ نفسَهُ إلهًا من الإلهِ وربًّا من ربوبيّتِهِ هو الّذي تداعَتِ الدّولُ والأحكامُ أمامَهُ، ليستغنيَ الإنسانُ الجديدُ بنجاحاتِهِ وإنجازاتِهِ عن الإلهِ؟!.
اليومَ وقفَ الأبُ الإلهُ وسطَ الكونِ مشطورًا، لأنّه لا يمكنُ له أن يفرِّقَ بين حبِّ ولدَيه… حتّى لو أخطأا إليه!!…
الابنُ الأصغرُ عاشَ الصّبرَ مضطّرًا، حتّى قسى عودُهُ ومن ثمّ صرخَ لأبيه: “أعطِني حريّتي، أطلقْ يدَيَّ!!”… وفكَّ أسرَ وجودِهِ من حضرةِ أبيه بجرأةِ الحبِّ للسفرِ الّذي ساواه بأبيه منطلقًا إليه وغيرَ عابئٍ بألمِ الّذي عايشَهُ وربّاهُ وأحبَّهُ أكثرَ من ذاتِهِ…
هكذا يذهبُ كلُّ إنسانٍ عرفَ نفسَهُ قطعةً من هذه الدّنيا مُنكرًا على أبيه أنّه هو خالقُ الأكوانِ والأزمنةِ وحتّى الحبِّ الّذي ينبضُ به قلبُ كلِّ من تعمَّدَ باسمِهِ، ليبقى معه عاملاً على حبِّهِ فيحيا كنفَ خلاصِهِ به.
أما الابنُ الأكبرُ فظهرَ اليومَ عند عودةِ أخيهِ الأصغرِ من تفلّتِهِ ساخِطَهُ، لأنّه إذ كان يتوقُ إلى جرأةِ أخيه في عيشِ الحريّةِ ولم يقدرْ، لأنّ الحريّةَ حركةُ حبٍّ من قلبِ الإنسانِ إلى قلبِ الإلهِ، لذا الابنُ الأكبرُ أماتَ حريَّتَهُ بإماتةِ حبِّهِ وإخلاصِهِ لأبيهِ.
هذان هما عنوانُ البشريّةِ!!…
ابنان خزنا في قلبَيهما ملءَ ثروةِ أبيهِما… الأكبرُ خزنَها مُقفلاً عليها حتّى نَتِنَتْ وصارَ يخافُ أن يعرفَ أيُّ إنسانٍ كم معه من أبيه… هكذا أفرغَ قلبَ أبيهِ من حبِّهِ الكبيرِ، من عطائِهِ، ولم يدركْ ولا مرّةً أنّ “الأبَ” هو “الله” وأنّه هو العبدُ الّذي لم يرضعْ حليبَ البرِّ وحبِّ الفقيرِ، بل تجاذبَ أموالَهُ مع عمّالِهِ، ليرثَ في قلبِهِ كلَّ مُلْكِ أبيه ولم يذبحِ العجلَ المسمّنَ ليُطعمَ عمّالَ الأرضِ… فالابنُ الأكبرُ لم يعِشْ حتّى خطيئةَ صباه، ليتعلّمَ ويُحسَّ حقارةَ نفسِهِ، دونيّتَها، بُخلَها، ونجاسةَ صمتِها… بل عاشَ حَسَدَها القاتلَ المسيحَ الّذي في أخيه وحتّى في الأبِ الإلهِ أبيهِ…
وكانتِ الدّينونةُ اليومَ!!.
لا كدينونةِ أهلِ هذا العالمِ الّذين قتلوا ربَّهم الابنَ… تاليًا أبَ ربِّهم الإلهَ الآبَ… تاليًا ذاتَهم…
اليومَ نقفُ كلُّنا شهودًا لنشهدَ للشّهادةِ البكرِ الأولى في التّاريخِ، أنّ كلَّ من وُلدَ من رحمِ الحياةِ تستَميتُهُ الحياةُ متى شاخَ أو متى مرضَ، حتّى لو كانَ طفلاً… لأنّ هذا العمرَ لا يُخلِّصُ الإنسانَ، بل يجرُّهُ إلى هاويةِ هلاكِهِ… إلى اضمحلالِ المجرّاتِ والبحارِ والصّحاري وعبادةِ كلِّ مخلوقٍ آخرَ، ليبقى وحدَهُ الإلهُ “الأبُ الابنُ” هو ختمَ الشّهادةِ للحبِّ الإلهيِّ والحياةِ الأبديّةِ!!…
الابنانِ قطعا أباهُما من قلبَيهما!!… والأبُ الطودُ بدأةُ ومبدعُ الحبِّ بقيَ واقفًا منتظرًا ملءَ الرّحماتِ، وقائلاً… “أنا لم آتِ لأدينَ بل لأخلِّصَ”.
وخلُصَ الابنانِ بحبِّ أبيهما… بدينونةِ حبِّه خلّصَهُما وبتوبةِ الابنِ الأصغرِ وعودتِهِ إلى حضنِ أبيه، مستميتًا البقاءَ معه…
اليومَ وافى الإلهُ البشريّةَ بحُكمِهِ!!.
لأنّه عاش محكمةَ الحبِّ… الغفرانَ!!.
اليومَ نتعلّمُ أنّه في الحبِّ الصّمتُ عن أنانا، لنحيا “أنا” الإلهِ…
اليومَ يصيِّرَنا الإلهُ حبًّا من حبِّهِ ووعدًا من وعدِهِ: “أنّكم آلهةٌ وأبناءُ العليِّ تُدْعون”…
الأمّ مريم (زكّا)، رئيسة دير القدّيس يوحنّا المعمدان، دوما – لبنان
عن “تأملات في الإنجيل”، 8 شباط 2015a