تأمّلات في الإنجيل: الأحد السّابع عشر بعد العنصرة
ويقفُ كلُّ إنسانٍ مكتوفَ اليدَينِ أمامَ ما بدأَهُ في قصدِ حياتِهِ… ليبقى الرّبُّ واقفًا، تاليًا، أمامَهُ لا يتحرّكُ، منتظرَهُ… وتمرُّ دقيقةٌ هي عمرُ الإبطاءِ والخوفِ الإنسانيِّ من الفشلِ والسّقوطِ من جحيمِ التّردّي أمام نفسِهِ البشريّةِ، ليهدأَ فيها وبعدَها، ينفضُ يدَيه من عمرِهِ، من طموحاتِهِ، ممّا خطّطَهُ بكلِّ وعيٍ لما يريدُهُ من يومِهِ، من عملِ يدَيه ويقفُ يقفُ طويلاً إذ ذاكَ… تتوقّفُ الحياةُ رغمَ طلوعِ النّورِ وانبساطِ الشّمسِ على التّرابِ لتدفئَ المزروعاتِ فتنمّيها إلى أفواهِ الأطفالِ والفقراءِ والعبيدِ، كما الأغنياءِ…
في حكمةٍ ينظرُ الإنسانُ حولَهُ ويقولُ: فلأنتظرْ عملَ إلهي الآنَ!!. لا بدّ له أن يأتيَني حتّى لو لم أصرخْ إليهِ… الرّبُّ يقفُ أمامي وأنا لا أنظرُهُ، بل أنتظرُهُ…
هكذا كان الإنسانُ يحيا بدءَ تاريخِ الحياةِ على الأرضِ… لأنّ الله هو ناظرُهُ ومنتظرُهُ، لأنّه هو أبدَعَهُ، ثبَّتَهُ على كلمتِهِ، على قصدِهِ فلن يتزعزعَ ولا الأرضُ الّتي يسكنُها…
الخالقُ الكائنُ والّذي كان ويكونُ بعد أن نفخَ روحَهُ في كفِّهِ مطلقًا الإنسانَ ليزرعَ وينميَ ويُبْدِعَ ويولَدَ من روحِهِ، لم يعدْ “يستطيعُ” السّكنى وحدَهُ لأنّه خَلقَ الإنسانَ من ذاتِهِ، ذاتِهِ الّتي لن تحيا إلاّ منه وفيه، لتصيرَ الكونَ الّذي أبدَعَهُ الإلهُ…
وكان الكونُ!!… وخربَ!!. خربَ بفعلِ تشييءِ المخلوقِ الإلهيِّ لخالقِهِ… إذ نسيَهُ لأنّه لم يعدْ يراه في قصدِهِ، في تداعيّاتِ حياتِهِ اليوميّةِ… فتخلّى الإنسانُ عنهُ، عن الإلهِ، متخليًّا، تاليًا، عن ذاتِهِ!!. صيّرَ إلهَهُ صورةً لوجودِهِ، هو المخلوقُ، لفعلِهِ وللكونِ ولكلِّ عظمتِهِ وإبداعاتِهِ…
هكذا وقفَ الإنسانُ المخلوقُ ذاتَ صُبْحٍ على تلّةِ جبلٍ لينظرَ طلوعَ الشّمسِ فأحرقَهُ نورُها… وإذ غامتِ الرّؤيا بين عينَيه، سقطَ إلى الأرضِ… انوجعَ على ومِن الإلهِ،
فسَخطَهُ، وبدأَ حسُّ الأنا فيه يتضعضعُ، فبدلَ نوئِهِ، تاليًا، تحت ألمِهِ لنقصانِ وعتمةِ حياتِهِ، انتفضَ صارخًا… أنا الإلهُ!!!…
هكذا انسلَّ عدوُّ الخيرِ إلى قلبِ وحسِّ الإنسانِ… انسلّتْ قوى الظّلمةِ والحقدِ على الإلهِ، لأنّه لم يُبدعِ الشّيطانَ بقوّتِهِ فيُرئِسَهُ معه حُكْمَ الكونِ الّذي أَبْدَعَهُ الإلهُ للحياةِ الأبديّةِ من ذاتِهِ ومعه وفيه.
لماذا الشّيطانُ؟!… لماذا قوى الشّرِّ؟! لماذا كلُّ الدّماءِ والإفناءِ والحقدِ والحسدِ والكذبِ للاستيلاءِ على قلوبِ أبناءِ الإلهِ، ليُبيدَ الشّيطانُ بهم، كونَهم كأنّه ليس هديّةً من الإلهِ لهم ولإخوتِهِم، فاستولوا على أرزاقِ الجماعةِ لهم بأنانيةِ وحدتهم مع الشّرّيرِ ليحيوا.
من أين تفتّقتِ الإنيّةُ لمَحْقِ الآخرِ في رؤيا وحقيقةِ وجودِ الكيانِ الإنسانيِّ؟!… أمِنَ الإلهِ؟!. أم من الشّيطانِ؟!…
“عظيمٌ أنتَ يا الله وعجيبةٌ أفعالُكَ وليس من قولٍ يفي بتسبيح عجائبِكَ”… وانتفضَ الشّرّيرُ أيضًا وأيضًا ليُبيدَ حتّى نَفَسَ الشّكرِ في الخلقِ والخليقةِ… كان مرادُهُ إطفاءَ جذوةِ حبِّ الإنسانِ للإلهِ واتّكائِهِ عليه…
قصدُ الشّيطانِ، عدوِّ الإلهِ، كانَ قطعَ حبلِ الوريدِ بين روحِ الله وروحِ الإنسانِ، لتخربَ الحياةُ في حشا الإنسانِ، فلا يعودَ يرى أو يُحسَّ أو يحيا نَفَسَ الحبِّ الإلهيِّ الّذي أبدعَهُ الخالقُ منه… لذا صارَ يذوي، يستسلمُ للحزنِ، ييأسُ، يُشيحُ نظرَهُ عن أخيه الإنسانِ، عن أقربِ المقرّبين إليه، حتّى عن رفيقِ ورفقةِ حياتِهِ، وأولادِهِ… يملّكُهم حاجاتِهم الملموسةَ اليوميّةَ، يمنحُهم قضاءَ سعيِهم من خمائرِ الأقبيةِ المتّسخةِ المحشوّةِ بنتنِ الموتِ والقبورِ الّتي يحيا فيها ليبقى في إنيّتِهِ، في موتِهِ… وتجسّدَ الإلهُ… آتيًا ليخلّصَ ما قد هلَكَ من شعبِهِ وعشقِهِ للمالِ، للسّلطةِ، وللموتِ هذا…
وسمعَ الإنسانُ الصّوتَ الصّارخَ به:
ها حسُّ ونتنُ الجيفِ، الّتي هي كياناتُكم وأرواحُكم وعقولُكم تتناطحُ، ليصلَ كلٌّ منها إلى فذلكةِ الإبداعِ، بدلَ تبنّي صوتِ الإلهِ الّذي تجسّدَ لأجلِ محوِ خطاياكم وتبييضِها، لتصيرَ لامعةً بدموعِ الفجرِ والعشايا، ندًى يتقطّرُ من أرواحِكم…
ثَقُلَتِ الأيّامُ عليكم وفيكم… تبدّدتْ طفولتُكم، كأنّكم ما وُلدْتُم من حشا مريمَ البتولِ والدةِ الإلهِ، امرأةِ عرسِ البتوليّةِ المولودةِ من روحِ وكلمةِ الله منذ بدءِ الكونِ، ليقولَ بعد خرابِ شعبِهِ وعلوِ مياهِ الشّرِّ على جبالِهِ اليومَ… لأجلِ أمِّ الإلهِ أُعيدُ بناءُ ما قد انهدمَ… لكنّي أُعيدُ بناءَهُ من وجعي على سقوطِهِ… فأُبدِّلُ وجهَ وماهيةَ وروحَ الأرضِ لتصيرَ أرضًا جديدةً حاملةً روحًا جديدةً، ووعدَ حياةٍ أبديّةٍ تتجدّدُ…
* * * * * * *
هذا هو اليومُ الّذي صنعَهُ الرّبُّ وفعلُ الكونِ الجديدِ الّذي ابتدعَهُ الإلهُ للإنسانِ الجديدِ بعد السّقوطِ!!…
فَشِلَ الإنسانُ… بمحدوديّةِ كيانِهِ الحاملِ الحياةَ… بعقلِهِ، بفكرِهِ، بِنُطْقِهِ، بإرادتِهِ، بفعلِهِ، بنفسِهِ، بقلبِهِ وماذا بعدُ؟!. وبوقفتِهِ الجديدةِ أمام خالقِهِ نافضًا يدَيهِ من إنجازيّتِهِ، ليقولَ لإلهِهِ: نظّفتُ شِباكي بعد إفراغِها من صيدِ الأصفادِ لا الأسماكِ وغسلِ ثيابي المتّسخةِ بعد إقراري بواقعي الجديدِ، إنّي أنا فشلْتُ لإخراجِ ما أنا مؤتمنٌ عليه من البحرِ، لآكلَ وأطعِمَ شعبي وفقراءَهُ والّذين يبتاعون منّي الأسماكَ ليحيوا ويقتاتوا بالخبزِ الّذي سيصيرُ هو هو طبيعةَ حياةِ الجسدِ الجديدِ، والرّؤيا الجديدةَ والواقعَ الجديدَ… “أن ليس إلهٌ إلهيٌّ إلاّ المصلوبَ للحياةِ على صورةِ الرّبِّ ومثالِهِ!!”…
اليومَ أتانا مسيحُنا ليطعمَنا خبزَ العبراتِ والرّوحَ الإلهيَّ إذ أشفقَ علينا، نحن جبلّتَهُ، فعمّدَنا هكذا بحنانِ حبِّهِ، علّمَنا قبولَ ذواتِنا ومحدوديّةِ اشرئبابِنا إلى عدميّتِنا لنجدَهُ في كلِّ ما نفكّرُ، ونعملُ ونعلّمُ… فنصرخَ: “لا لنا… لا لنا يا الله… بل لاسمِكَ أعطِ المجدَ!!”…
اليومَ تبدأُ تجليّاتُ وأفعالُ ووعودُ إلهِنا لنا: “أنّكم تصيرون آلهةً وأبناءَ العليِّ تُدعَون… وأنا لا أدعوكم بعدُ عبيدًا، بل إخوةً لي”…
ما السّرُّ “العظيمُ” هذا؟!… أن نقبلَ؟!. بل أن يصيرَ يسوعُ المتجسّدُ شريكَنا في كلِّ ما نعملُ ونفعلُ ونفكّرُ، ليأخذَ هو عنّا قَصْدَنا، وينظّفَهُ ليكثّرَهُ عشراتِ ومئاتِ أضعافِ ما نودُّ فعلَهُ وإذ نندهشُ من فعلِنا الّذي هو فعلُ يدِ الخالقِ من جهةٍ، وقبولِنا حضورَهُ فاعلاً في تفاصيلِ يوميّاتِ تفكيرِنا وفعلِنا لتنفيذِ مشيئتِهِ بالكليّةِ، نصيرُ، تاليًا، خدّامَهُ وخدّامَ البشريّةِ لنُبشِّرَ به، فيعرفوا اسمَهُ!!… هكذا يصمتُ، تاليًا، الإنسانُ عن “أناهُ”… ويذوّبُ الرّبُّ يسوعُ كلَّ ما هو مخزونٌ من السّقوطِ في الإنسانِ، ليجعلَهُ فعلاً جديدًا وحياةً جديدةً مُستمَدةً من رؤيا وهجِ شمسِ النّورِ الجديدِ الّذي إذا عاينّاه لا يُعمينا، بل يحوِّلُ خلايا عتماتِ جسدِنا هذا المائتِ إلى انبجاسِ نورانيّةٍ جديدةٍ، لا ندركُها ولا يُمكنُنا إدراكُها، لا في القلبِ ولا بالعقلِ ولا بالقصدِ، بل تصيرُ نَفسَ روحِ الله فينا!!. هكذا وبكلِّ بساطةٍ، نبدأُ نحيا إنسانَنا الجديدَ، نداءاتِ توقٍ وحبٍّ من حبِّنا للإلهِ: “أن تعالَ واسكنْ فينا وطهّرْنا من كلِّ دنسٍ وخلّصْ يا أيّها الصّالحُ نفوسَنا”…
اليومَ في قبولِنا غسلِ شباكِنا الّتي لم تصطدِ السّمكَ ووقوفِنا فارغي الأيدي والأكفِّ بالفشلِ، نقبلُ أن نستقبلَ الرّبَّ يسوعَ في فراغِ قلوبِ بيوتِنا وأذهانِنا وتفاصيلِ خلايا كياناتِنا، وعملِنا، ليدخلَ هو أخدارَنا المائتةَ، فيملأَ مياهَ جرارِ عُرْسِنا معه، إلى ملءِ خمرةِ جسدِهِ المطعونِ بحربةِ الشّيطانِ، لنأكلَ من صيدِهِ هو لنا، لا من صيدِنا نحنُ لإطعامِ النّاسِ والبشريّةِ حولَنا ومنّا، بل نغرفُ للإشباعِ من جسدِهِ الطّاهرِ هذا، الّذي نتناولُهُ لنحيا، ومن دمِهِ الكريمِ، فنصيرَ جسدًا من جسدِهِ ودمًا من دمِهِ، لصيدٍ جديدٍ يتجدّدُ منه، فيه ومعه، حتّى يأتيَنا هو يومًا، فيحملَنا إلى إخلائِنا الكاملِ لذاتِنا من عتاقتِنا والتّمتمةِ له: “هلمَّ يا إلهَنا… هلمَّ واسكنْ معنا فينا مصيِّرنا صيّادين لناسِكَ الفقراءِ والغرباءِ والحزانى والمُبعدين عنكَ…”… آمين…
الأمّ مريم (زكّا)، رئيسة دير القدّيس يوحنّا المعمدان، دوما – لبنان
27 أيلول 2015