يحدّثنا إنجيل اليوم عن محبتنا للجميع، حتى الأعداء، ويجعل المحبة بلا التماس مقابل، وينتهي بقوله: “كونوا رحماء فإن أباكم السماويّ رحيم”.
المسيحية رحيمة، ينبغي أن ندرك كنهها لنتمكّن منها، وألاّ تبقى أغنية، شيئا نفاخر به أمام الناس. السؤال المطروح علينا كل يوم هو: ما هو مصدر محبتنا؟ بأية قوة نستطيع أن نحب؟ نحن ليست فينا أساسا هذه القوة لكون الإنسان يجنح إلى التشفّي إلى الانتقام. الإنسان عدائي، العدوانية متأصلة فينا. الإنسان يميل إلى استعداء الناس، والسيد يطلب إلينا أمرا فائق الطبيعة، يلحّ بأن نحب وأن نحب دائما، وأن نحب الأعداء، ويقول لنا إن هذا ممكن ولكن ليس من هذا التراب الذي جُبلنا به، ولكنه ممكن من الروح القدس إذا تدفّق علينا من فضله.
المسيحية وحدها معلِّمة المحبة. يمكن أن نجوب الدنيا وأن نقرأ كل الكتب والتعاليم ولكن إنجيل يسوع المسيح هو وحده الذي كشف المحبة بالأبعاد العظيمة التي نعرفها، وهو الذي جعلها غير مشروطة أي غير متوقّفة على عواطف الناس. يسوع يقول: أحبّوا الناس أكانوا هم مُحِبّين لكم أم مُبغِضين. محبتكم لا ترتكز على لحم ودم ولا على عواطف الناس، المحبة ليست منكم ولا منهم، إنها آتية من أبيكم الذي في السموات. المحبة ممكنة في المسيحية وحدها، أما في غيرها فهي شفقة ورحمة. في إنجيل يسوع المسيح المحبة كاملة، دائمة، لا تتوقف. المحبة تجيئنا من قلب الله وتبقى فينا ما دام الله في قلوبنا. وهي التي تُغيّر وجه الدنيا وإليها يصبو العالم، وهي نهاية كل شيء، فإن الإنسان إذا حصل عليها لا يسعى إلى شيء آخر. التطوّر الذي يتكلم عنه الناس، الرقيّ الذي ينشدون، إنما كانت غايته أن يعيش الناس في النهاية في المحبة. فإذا نحن أدركنا المحبة، نكون قد وصلنا إلى غاية الإنسان في تطوره ورقيّه، ولا نكون في حاجة إلى شيء آخر.
“أَحِبوا بعضكم بعضا كما أنا أَحببتكم”. هذا هو سرّ العملية بأسرها: “كما أنا أَحببتكم”. أي أني أَحببتكم حتى الموت، وكشفتُ لكم أن الله محبة، وأنكم إذا كنتم فيه فأنتم محِبّون، وأما إذا احتجب عنكم أو حجَبَتْه عنكم خطاياكم فلستم بقادرين على الحب. المحبة وَجدَت كمالها في موت المسيح. فمن كان مؤمنا بموت المسيح، ببذله الكامل، فهذا إنسان مُحبّ لأنه يعلم أن الإنسان الآخر الذي أمامه إنما هو ضعيف وبحاجة إلى مداواة.
فكما أن المسيح طبيب البشر، هكذا جعل الذين له أطباء للناس. الطبيب إذا أُتي إليه بمريض قد لا يعرف اسمه وقد لا يرى وجهه ولا يسأله عن هويته أو عن دينه أو عن عرقه أو عن أصله، ولكن أمامه مريض يعالجه، ثم يأتي مريض آخر ويعالجه بالعناية ذاتها والالتفات عينه. هكذا كل واحد منا مريض. كل منكم مريض روحيًا، والشخص الآخر، الشخص الذي أمامه أو بقربه، جاره أو صديقه أو عدوّه، عُيّن طبيبا من الله للانتباه إليه والاعتناء به. فنحن بالتالي لا يهمنا أقال عنا سوءًا أم لم يقل، أضربنا أم لم يضرب، أظلمَنا أم لم يَظلم، هذا الإنسان الذي أمامنا دفعه الله إلينا للعناية. والمحبة في المسيحية عناية.
المسيح جاء ليخلّص الناس، ولكنه أراد أن يكون كل منا متابعا لرسالة الخلاص، مخلّصًا للذين حوله. المسيح لا يعمل فقط من السماء، كلّنا يداه وعيناه، ولذا دفع إلينا الإنجيل ليصبح فينا وبين أيدينا حقيقة باهرة. وهكذا، إذا أحببنا الناس، يحسّون بأن الله يحبّهم. نحب، حتى يتقرّب الناس ليس منّا بل من الله. لا نحب لكي نُحَب، إنما نُحِب لكي يصير الله محبوبا.
جاورجيوس، مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
عن “رعيّتي”، العدد 40، الأحد 4 تشرين الأول 2015