“كنت غريباً فآويتموني” (متى 25: 35) أعطني هذا الغريب الذي لا مكان له يسند اليه رأسه أيها الأحبّاء! وددتُ أن أنقل اليكم هذه الكلمات مريداً أن أُرشدكم كما أُرشد نفسي لكي نجوز جهاد هذا الصوم الكبير متشبّهين، بقدر استطاعتنا وبمؤازرة نعمة الله، بيسوع المسيح الذي عاش غريباً على هذه الأرض وضحّى بنفسه محبّة فينا وفي العالم.
نعم نحن المؤمنين عامة والمسيحيين خاصة، نعيش في غربة في هذا العالم الذي يُمسي أكثر فأكثر قاسياً موحشاً بعيداً عن روح ملكوت السموات. لقد قال الربّ لتلاميذه “لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم” (يوحنا 15: 19). عاش القدّيسون “غرباء ونزلاء على الأرض ناظرين بإيمانهم إلى المواعيد السماوية” (عب 11: 13).
الصوم هو البعد عن الخطيئة عشقاً بالله. حضور الله فينا وفي حياتنا هو الذي يَشفينا. وأيضًا الصوم كما يقول القدّيس غريغوريوس بالاماس، هو “زمن التوبة” والتوبة هي تحوّل القلب إلى الله.
خذوا فرصة قليلة من انشغالكم بهموم وملذّات هذا العالم، أرجوكم يا إخوة انا المشغول أكثر منكم إرجعوا قليلاً إلى أنفسكم في هذا الصيام الآتي اهتموا براحة نفوسكم كما تهتموا براحة أجسادكم. اسمعوا ما يقوله القدّيس أفرام السرياني:
“لماذا تخشى الطبيب؟ ليس هو بوحش ولا برجل قاس عديم الرحمة. لا يستخدم السكين كما ولا يستخدم دواءً مرّاً محرقاً. يداوي فقط بالكلمة. إن أردتَ ان تأتي اليه فهو مليء بالخيرات مليء بالرحمة… صار انساناً من اجلك لكي يداويك من جراحاتك… لأن الطبيب السماوي هكذا يشاء أن يداوي الإنسانُ نفسه عن طريق دموعه وهكذا يخلص”.
نعود إلى الغربة: يقول القدّيس يوحنا السلّمي الغربة حكمة مجهولة عند الناس، منطلق للشوق إلى الله، توغل في الصمت” . الصمت الروحي، كالصوم الحقيقي، هو الإمتناع عن كل ما لا يخصّ الله، أو اذا شئتم الإنصراف الكليّ إلى ما يخصّ الله. كلّ ذلك يتطلّب تمييزا كبيراً اذ ليس كلّ صمت، ولا كلّ صوم، ولا كلّ غربة قصوى حسناً “هذا لأن الغربة هي الإنفصال عن كلّ شيء بغية بقاء الذهن غيرَ منفصل عن الله” (السلّمي).
شوق الله يغلب شوق العالم مع اللهو والسهرات والمآكل الشهيّة والإنشغالات العالمية والواجبات الإجتماعية. شوق الله يدعونا إلى الإنصراف اكثر إلى الصلوات والمطالعات الروحية والتطلّع إلى داخل القلب بدل الخارج والإعتراف بالخطايا.. كلّ ذلك أنت مدعو اليه في فترة الصوم الكبير حتى تستلذّ أكثر بموسم التوبة التي تقودك إلى التمتع بفرح الفصح فرح القيامة.
أفرام، مطران طرابلس والكورة وتوابعهما
عن “الكرمة”، العدد 8، الأحد 22 شباط 2015