أمامنا في إنجيل اليوم حادثة يصعب تفسيرها بالوسائل الحديثة وبمفاهيمنا العصرية، ولكنها تفترض يقينا بأن الروح الشرير يمكن ان يشمل الانسان. نرى يسوع يشفي انسانا مجنونا حلّ به روح شرير. وهذا الانسان الذي يسمّى مجنونا اختلطت فيه السكنى الشريرة مع المرض. كان الأقدمون يعتقدون ان المجانين انما فيهم أرواح شريرة.
الأمر الذي يستدعي انتباهنا هو ان إبليس يقول ليسوع: «ما لي ولك يا يسوع ابن الله العليّ»، وكأنه لا يريد أن يخرج من الانسان، ويرى ان يسوع عدوّه. مملكته آخذة بالانقراض اذ كان يسوع يبشّر ويشفي، لذلك تمسّك بأن يبقى في الانسان المجنون. انه صراع أبدي طويل بين روح الله وروح الشر في العالم. وروح الشر الذي كان في الانسان دُعي لجيون، ومعنى الكلمة كثيرين، لأن شياطين كثيرين كانوا قد دخلوا فيه.
من وراء هذه الحادثة يجدر بنا أن نعرف شيئًا إيمانيًا ألا وهو أن كل الخطايا التي يرتكبها الانسان انما هي في الأساس من خارج الانسان وتأتي اليه بالتجربة وتحرّك فيه الشهوة. وينبغي أن نؤمن أن روحا مستقلا عن الانسان هو الذي يستدعيه الى ارتكاب الخطيئة. هذا شيء وارد في إيماننا منذ أن صوّر سفر التكوين لنا تجربة أبوينا الأوّلين اللذين «طغاهما» الشيطان. يبقى الانسان محافظا على حريته، ومع هذا فإن قوة خارجة عنه تُحركه الى الخطيئة. الانسان يبقى مسؤولا لأنه يستطيع ان يطيع وساوس الشيطان ويستطيع ان يتحرر منها بقوةٍ من يسوع وإيمانٍ بصليبه وقيامته. وعندنا هنا الانسان على صورتَيه: عندما كان تحت طغيان الشرير اولا، وعندما كان تحت تأثير السيد ثانيا.
يقول لنا الإنجيل ان الرب شفى المجنون وأطلق منه تلك الوثبات الشريرة، فتطهر منها وصار عند قدمي يسوع لابسا ثيابه فيما كان عاريًا من قبل. نستطيع ان نرى الرمز هنا. الانسان اذا ما خضع للشرير ولشهوات نفسه يكون عاريا من نعمة الله، في حين انه اذا انضم الى يسوع يتسربل النعمة حسب قول الرسول بولس: «يا ايها الذين بالمسيح اعتمدتم المسيح قد لبستم» (غلاطية ٣: ٢٧). والانسان خارج يسوع وخارج نعمته هو دائمًا مجنون. ليس من الضروري ان يكون مريضًا في عقله. الخطيئة كلها «جنون» لأنها تعني ان الانسان قد فقد حريته بعد ان استسلم الى الشر وصار كالسكران الذي يمشي في طريق مظلمة ويصطدم بكل حائط وبكل حجر عثرة.
عندما شُفي المجنون، قال عنه الإنجيل انه صار «صحيح العقل». هذا وارد لكل واحد منا. اذا تاب الى ربّه، فإنه يصبح صحيح العقل. الحكمة، صحة العقل، قائمة في اتّباع المسيح. الانسان صحيح العقل ليس اذا عرف ان يتكلّم باتّزان، ولكن اذا حصل على اتزان داخلي في نفسه. سهل على الانسان أن يتكلّم باتّزان ومعرفة، هذا يتعلّمه في المدارس. ولكن، يقول لنا الإنجيل ان يكون الانسان متزنا في روحه، حرّا من الشهوة، سيّدا على نفسه، صحيحًا بكل معنى الكلمة، فهذا أمر معطى من الله بنعمة يسوع.
بعد ذلك، الذين كانوا يعرفون المريض في تلك الكورة اعتراهم خوف عظيم. اضطربوا لأن حياة جديدة قد أتت الى العالم بواسطة المعلّم، وكانوا يألفون حوادث الجنون والمرض وسكنى الشيطان. فعندما أتت الحياة اليهم تزعزعت عاداتهم وأركان تفكيرهم ولم يريدوا ان ينضمّوا الى السيد. بقوا على خوفهم، وكأن الكتاب يشير الى أننا نشفى من الخوف بنعمة المسيح ونصل الى الطمأنينة. نلبس المسيح، نصبح أصحّاء العقول. وفوق هذا، نُلازم المسيح كما لازمه هذا المريض بعد الشفاء. هذا هو المهم: أن نعمل كما عمل المريض بعد شفائه. أن نذهب وننادي في المدينة كلها بما صنع الينا يسوع. أن نذهب ونعلن أننا قد شُفينا من أمراضنا جميعا. ولكن قبل كل ذلك، ينبغي أن نكون مع المسيح في كل وقت ونتحرر من الخوف ونصير في السلام. عندما تأتينا الطمأنينة، عندما نصبح في الهدوء الحقيقي، هدوء النفس المُحبة للرب، عند ذلك نستطيع أن نتكلم بكل ما صنعه الرب إلينا، ليس فقط بالكلام العادي، بل أن تتحدث حياتنا كلها بالقوة التي لنا في الرب، فيستمدّ الناس حولنا قوة من قوة الرب من خلالنا نحن.
جاورجيوس، مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
عن “رعيّتي”، العدد 43، الأحد 26 تشـرين الأول 2014
الخطيئة جنون