هذا المَثَل الإنجيلي لعله أفصح مَثَل عن التوبة. »إنسان كان له ابنان«. الصغير منهما يطلب لذائذه. وهذه لا يستطيع احد تنفيذها بلا مال. مصدره الوحيد حصته في الإرث. طلبه الى أبيه وحصل عليه. هذا القسم من الإرث فيه أشياء كثيرة ومنها المال. أخذه وسافر الى بلد بعيد وعاش بهذا المال في الخلاعة. كانت نفسه تطلبها منذ تركه البيت.
حصلت في هذا البلد مجاعة شديدة. مَن يطعمه وقد أنفق ماله كله؟ اضطرّ أن يعمل فسعى الى وظيفة في هذا المنفى. الوظيفة كانت أن يرعى خنازير، والخنزير محرّم أكله في شريعة موسى. الكلمة تدلّ على الدنس الذي غرق فيه هذا الفتى. يبدو أن أَجره كان قليلا ولم يستطع أن يشبع.
إذ ذاك تحرّكت مشاعره وتذكّر أباه عارفا ان أباه سوف يستقبله ويُطعمه من بعد جوع. »أَقومُ وأَمضي إلى أبي«. كان القيام من الخطيئة الحركة الأولى. والحركة الثانية: »أمضي الى أبي« واعترف له بخطاياي. والخطيئـة الأُولى كانت تـرك المنـزل الأبـويّ الذي يتـبـعـه بالضرورة الارتماء في أحضان الزواني. ولكن الخلاص الكامل من الخطيئة يحتاج الى اعتراف باللسان. سأقول لأبي: »لستُ مستحقّا أن أُدعى لك ابنًا فاجعلني كأحد أُجرائك«. مشى طويلا »وفيما هو بعد غير بعيد، رآه أبوه فتحنن عليه وألقى بنفسه على عُنقه وقبّله«.
أتصوّر الأب واقفًا طويلا كل يوم على سطح من سطوح البيت يدلّه قلبه على أن ابنه الضالّ لا بد له أن يعود. لم يتفوّه الوالد بكلمة لوم. لم يقُل له أنّ ترك المنزل يتحمّل الخطر بعد الترك، وكان الخطر خطرين: الجوع والتهتّك. عبّر الوالد عن شوقه لابنه ليس فقط بحركة العناق والقبلة ولكن بشكل محسوس إذ ألبَسه الحُلّة الأولى ووضع خاتمًا في يده وحذاء في رجليه وذبح له العجل المسمّن قائلا للخدام: »إن ابني كان ميتًا فعاش وكان ضالّا فوُجد«.
حزنَ من هذا الاستقبال الشاب الأكبر لأن أباه ميّز الخاطئ التائب عن ولده الذي لم يرتكب خطيئة وما خالف أمرًا لأبيه، فقال هذا له: »ينبغي أن نفرح ونُسَرّ لأن أخاك هذا كان ميتًا فعاش وضالّا فوُجد«.
الحكاية كلها في حقيقتها هي حكاية الأب الحنون الذي يضمّ الى صدره الولد العاقّ ويُحافظ على الابن المطيع الذي بقيت سيرته بلا عيب. الجودة هي عند الوالد وعنده الحنان.
فيما نحن نتدرّج الى الصيام المبارك ذكّرَتْنا الكنيسة أن جوهره هو التوبة وأننا في كل أيام هذا الجهاد العظيم نطلبها لكي نكون مستحقّين لرؤية الجمعة العظيمة ويوم القيامة.
الرب حاضر لاستقبالك برحمته إن كنتَ خاطئًا، واذا ضمّك اليه تشعر بحنانه ولا شيء يبعدك عن هذا الحنان. واذا أَحسسته كثيرًا تكون قريبًا من توبة عميقة صادقة ولا تخرج من بيت أبيك السماويّ أي محبته، وتألف هذه المحبة التي تزداد فيك يومًا بعد يوم إن ثابرت على الصلاة بنوع خاصّ في الصيام الآتي.
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
عن “رعيّتي”، العدد 7، الأحد 12 شباط 2012