على مدى السنوات القليلة الماضية كان هناك الكثير من الحديث عن “التوليف النيو آبائي“، “اللاهوت ما بعد الآبائي“،“لاهوت الملائمة السياقية” وغيرها من الاجتهادات الطموحة المختالة والمؤسفة، التي يرنو أصحابها إلى أن تنتشر، وأن تبدو أصيلة ومختلفة. كل هذه اﻷمور تخلق المفاجآت والألغاز والمنطق والفكر المنحرفَين. في ما يلي سنعمل على تقديم بعض هذه الأفكار بطريقة موجزة ومتواضعة، بعد أن نعيد تأكيد بعض المواقف الكنسية المعروفة.
إقليمندوس المعلّم الإسكندري كان أول من تحدث عن “اللاهوت الصحيح” وعن “الفلسفة الحقيقية واللاهوت الحقيقي.”يشير يوسابيوس القيصري في عمله عن اللاهوت الكنسي إلى “جوقين سلّما للبشرية لاهوت مخلصنا، الأول كان اﻷنبياء والثاني كان الرسل وتلاميذ الرب“.
اللاهوتي الأول هو يوحنا الإنجيلي، والثاني هو غريغوريوس النزينزي والثالث هو سمعان الجديد. القديس غريغوريوس اللاهوتي، من خلال مواعظه الشهيرة، يؤلف نظام حقائق الإيمان المسيحي، يعلن ثالوثية اﻷلوهة، يصف الكائن الذي لا يُدنى منه والقوى غير المخلوقة، والتكامل بين الأقانيم الإلهية الثلاثة ومعرفتهم … اللاهوت يعني الكلمة الدقيقة عن الله، حقيقة الإيمان، طريقة الاقتراب من الله، تأليه الإنسان، تكميل المؤمن بالنعمة والمشاركة، خبرة الله الحي، استعلان الله في حياتنا، وتجديد الإنسان الساقط وتحوّله. هناك عدة طرق لمقاربة الله وكل مؤمن يختار الأنسب. كل هذه الطرق، يميزها التواضع والمحبة.
اللاهوتيون الأوائل هم الرسل، من ثمّ المدافعون، آباء الكنيسة الكبار وجميع القديسين. اللاهوت المسيحي هو الفلسفة الحقيقية التي تشمل العقائد الحقيقية عن الله. أثناسيوس الكبير في الإسكندرية ويوحنا الذهبي الفم في أنطاكية والقسطنطينية يقدّمان لاهوتاً مباشراً حصيفاً ورصيناً محوره المسيح. الآباء الكبادوكيون أكّدوا بشكل أساسي على التمييز بين الجوهر الإلهي والقوة الإلهية. ومن بعدهم القديس يوحنا الدمشقي، وفي وقت لاحق القديس غريغوريوس بالاماس، شكّلا خلاصة حقيقية ومنهجية للروح الآبائية بأكملها. للاهوت النسكي وتيار الهدوئيين القديسسن ممثلون رائعون من ديونيسيوس الأريوباغي إلى سمعان اللاهوتي الحديث وغيرهما ممن تبعوهما.
إن الميل للعودة إلى الآباء الذي ساد في السنوات الأخيرة من خلال عمل الأب اللاهوتي العظيم جورج فلوروفسكي قد أثمر الكثير، وها نحن نتمتع به حتى يومنا هذا. بنأيه عن اللاهوت الغربي القانوني والتقوي، أكد اللاهوت الأرثوذكسي تجديد الإنسان وتحوّله في المسيح من خلال معاينة الله والاشتراك فيه ضمن جسد الكنيسة عن طريق اليقظة والنسك والصلاة والحياة الأسرارية، والتطهّر والاستنارة والتقديس. تحوّلت المدرسية الغربية إلى مضجرة ومملّة. إن الأفكار التحررية الجديدة المبتكرة عند بعض اللاهوتيين الشرقيين تطرح إشكالية. أصرّت البروتستانتية على “الإيمان وحده“، وليس على العقائد الكنيسة ولاهوتها. يسمّي القديس ذيوذوخوس فوتيكي اللاهوت على أنّه السعي إلى الله والشركة معه، من خلال الدراسة والصلاة. ثيوغنوسطوس، يعتبر الحياة النقية والفكر الواضح شرطين مسبقين للاهوت والمعاينة النقية. إن المعاينة تسمو على اللاهوت والمعاين يسمو على اللاهوتي.الله.
إن آباء الكنيسة الكبار هم لاهوتيوها العظماء. هم المتوشحون بالله، العاملين بوحيه، المحرَّكون به، المستنيرون، الذين يقطعون كلمة الحق باستقامة في حياتهم وتعليمهم وأعمالهم. إن نبرة ارتقائهم اللاهوتي هي على هذه الحال، ليس فقط بسبب دراسة الكتاب المقدس المستمرة، ولكن أيضاً بسبب تجاربهم، لأن كلمة الكتاب المقدس صارت عربون قبول قلوبهم. يتميز جميع آباء الكنيسة بقداسة حياتهم وعقيدتهم الأرثوذكسية.
هناك حاجة عظيمة للعودة إلى المصادر الآبائية المقدسة، التي تحيي ولا تنضب دائماً. الآباء الكبار ليسوا فقط القدماء منهم ولكن أيضاً اللاحقون الذين يتابعون على درب مَن لديهم خبرة أكبر من ماضي الكنيسة المفيد. اللاهوتيون المعاصرون بحاجة إلى أن يدرسوا أعمال آبائنا القديسين بأمانة. إنّ تشويه التقليد المقدس أو الجهل به، وإنشاء لاهوت جديد يتجاوز الآباء واعتبار أنّ الزمن عفا عليهم، بلغة من المألوف الثقافي والمصطلحات أكثر تعقيداً، غير مفهومة في بعض الأحيان حتى لمستعمليها محدِثة لاهوتياً، معادية للنسك، غير مبلورة ولا موثّقة، سهلة، بهيجة وسعيدة جداً، ولكن أيضاً ضحلة فاترة وروتينية.
ما معنى “اللاهوت السياقي الصلة (Theology of contextual relevance)؟” أولا كلمة “السياقي” تعني علاقة الأمور ذات العناصر المشتركة وشبهها ووظيفتها وارتباطها. يبدو أن هذا المصطلح غامضاً للغاية. لقد ظهر في اجتماعات الحوار المسيحي كوحدة تسوية، كي لا ينكشف انقسام المسيحيين أمام أتباع الديانات الأخرى. وضع المسيحيون خلافاتهم العقائدية الأساسية جانباً وقدموا أنفسهم على أنهم أصدقاء وشركاء في اﻹحسان، والبيئة، والمسالمة وagapetism. لقد أعطوا الأفضلية للفكر المتعلّق بالعدالة الاجتماعية والإنسانوية، وليس لحقائق الإنجيل المقدس العظيمة. في الكنيسة الأرثوذكسية الثابتة لا نلتقي “الكنائس” المختلفة لأن الكنيسة واحدة، مقدسة، ورسولية. ليست الكنيسة مشروعاً مشتركاً أو رابطة أو نادٍ، بل هي الكنيسة التي تخلّص، تفتدي، تقدّس، تؤلّه، وتكمّل. ما لا يمكن تصوّره ولا قبوله هو أن يُصار إلى تشويه المحتوى الفدائي العميق للإكليسيولوجيا الأرثوذكسية على يد لاهوتيين أرثوذكس وخاصةً من اﻹكليريكيين.
إن آباء الكنيسة لم يتقدّموا في العمر، ولم يعفُ عليهم الزمن، ولا انتهت صلاحيتهم، أو تم تمديدها. لاهوت ما بعد الآباء ليس موجوداً، بل هناك اللاهوت مع الآباء. ويستند الآباء إلى الكتاب المقدس ويحرّكهم الروح القدس. أنهم “أواني الروح“،“أبواق الله“، “الأفواه الكليّة التذهّب“، “قيثارات الروح“، “ألواح النعمة“، و“أزهار الجنة.” اللاهوت الأرثوذكسي من دون جهاد شخصي ونسك ويقظة (νήψη) واستنارة إلهية لا وجود له، وعلى المنوال نفسه لا يوجد لاهوت من دون آباء متوشّحين بالله. إن الآباء القديسين ومعلمي المسكونة لا يخالجهم الشوق لأن يكونوا مبدعين، أو ﻷن يثيروا انطباع أحد أو لأن يقدّموا شيئاً جديداً من شأنه أن يمنحهم المجد. لقد كتب الآباء وتكلّموا، عندما كانت حاجة الكنيسة كبيرة ولم تكن غايتهم تطوير نظريات شخصية وآراء فلسفية جديدة. إذ غمرهم ضوء معاينة الله، وضعوا بتواضع الحقائق السامية، مفسرين إياها بالاستنارة الإلهية، والحقائق الخلاصية التي كشفها المسيح نفسه للعالم.
لا ينتمي الآباء إلى ماضي الكنيسة بل إلى حاضرها. لا يمكننا الحديث عن قبل الآباء وبعدهم. الأمر قد يبدو كما لو أننا تخطيناهم، أو أنهم قدموا لنا ما كان ينبغي عليهم تقديمه، وأنه ما من حاجة من بعد إليهم وأننا قادرون على المضي قدما من دونهم، وأننا أيضاً آباء ولا ينقصنا أيّ شيء … كل هذه الاعتبارات تذكّر بالآراء البروتستانتية عن الكرامة والسلطة والتحرر. لقد سار الآباء على خطى الرسل وخطى الرب، والآباء الأصغر ساروا خطى الآباء الذين سبقوهم. التعسف هو بدعة بالنسبة للأرثوذكسية.
لقد قيل الكثير في المؤتمر اللاهوتي في حزيران من العام الماضي (المقال اﻷصلي نُشِر في 17 كانون اﻷول 2010 في الأكاديمية اللاهوتية في أبرشيةديميترياس Demetrias المقدسة حول موضوع “التأليف الآبائي الجديد، أو اللاهوت ما بعد اﻵبائي: إن السعي إلى لاهوت سياقي الصلة في العقيدة” أمر غير مقبول. هناك مَن يثير تساؤلات ضد مساهمة الأب جورج فلوروفسكي “حقيقة الأرثوذكسية الفريدة”. وقد تمّ اقتراح أنّ اﻵباء ينتمون إلى الماضي، وأنّ التقليد لا يأخذ قدره. لاهوتنا مُتَّهَم بأنه يحتوي على الأساطير، وأنه ليس أصلياً، أن يتم تخطي الآباء وتُعاد صياغة العقائد… لا يمكن لأكاديمية ﻻهوتية أرثوذكسية دعوة متحدثين يقدمون ما يتخيلونه وما يحلو لهم …
أليس النقد الذاتي حاجة هنا بدلاً من توجيه الانتقادات للآباء؟ أليست دراسة الآباء بشكل أعمق أجدى من إهمالهم؟ إن اللاهوت الذي ينفي من غير مقابل مساهمة الآباء هو بروتستاني بشكل واضح.إن لاهوتاً المنشق يخلق المشاكل بدلاً من حلِّها. ينبغي أن ينمو اللاهوت من دون معرفة متغطرسة ونكات أصلية، وتفسيرات تعسفية وأفكار متولدة، ولكن في جو من التواضع والاتّزان، والزهد، وتقليد كنيستنا. إن كنيستنا تلد القديسين وتحفظ النفوس. نحن بحاجة إلى لاهوتيين قديسين. إن اللاهوت الأرثوذكسي يصير رائعاً بنعمة الروح القدس المحيي وشفاعة القديسين، معلمين المسكونة الرائدين.
الشيخ موسى اﻷثوسي
نقلها إلى العربية اﻷب أنطوان ملكي
http://www.orthodoxlegacy.org/