الكماليّةُ (أو السعي إلى الكمال) هي اقتناعُ المرءِ بأنَّ الكمالَ (فيه أو في سواه) يجبُ أن يكونَ مطمحَ كُلِّ إنسان. بَرزَ مفهوم الكماليّة في أوساط البيئة البروتستانتية في القرن التاسع عشر، ليتحوّل بعدها إلى كماليّة كلاسيكيّة صاغها ايمانويل كانتKant، وغوتفريت ليبنيتس Leibnits، والماركسيّون. كانت في البداية تعني سعي المرءِ إلى كمال دُستُورِهِ الأخلاقيّ، وتنميتَهُ لما عنده مِن وزَناتٍ ومواهب. إنّ مفهوم الحاكم المطلَق عند نيتشه، والذي يُترجم أحيانًا إلى سوبرمان، هو أيضًا نوعٌ من هذه الكماليّة.
ما الفرق بين فكرة المسيح في قوله “كونوا أنتم كاملين كما أنّ أباكم الذي في السماوات هو كامل” (مت 5: 48) والكماليّة الكلاسيكيّة؟ في المسيحيّة، الخير هو فقط ما يُصنع باسم الله، والسعي إلى الكمال هو التطهّر الذاتي، بمساعدة الله، من كلّ فسادٍ في طبيعتنا. فخيرُ طبيعتنا الساقطة يمتزج بالشرّ، ليتحوّل الخير إلى شرّ، تمامًا كما يتحوّل الطعام الجيّد واللذيذ إلى طعامٍ سامّ حين يمتزج بالسمّ.
“انتبهوا ألاّ تصنعوا الخير الذي في طبيعتكم الساقطة! بِصُنعكم هذا النوع من الخير، ستنمّون طبيعتكم الساقطة واعتدادكم بأنفسكم وكبرياءكم، وستوشكون أن تصيروا مثل الشياطين (القدّيس اغناطيوس بريانشنينوف، “هبةٌ إلى الرهبنة المعاصرة“).تَعتبِر المسيحيّة أنّه لا يمكن لأيِّ عملٍ أن يكون كاملاً، ولو كان أكثر الأعمال صوابًا ولطفًا، إذ إنّه يتأثّر بنَقصِنا الشخصيّ؛ والتعويض عن هذا الخلل يتمّ عبر التواضع ولوم الذات. إنّ الكماليّة تسعى إلى تطوير أخلاقيّاتٍ مجرّدة عند الفرد، عن طريق الطبيعة البشريّة الساقطة دون سواها.
وتختلف الكماليّة المُعاصرة عن تلك التقليديّة، فقد تحوّلت، إلى حدٍّ كبيرٍ، إلى التزامِ أفضل المعايير في الحياة اليوميّة، واعتماد ذهنيّة “كلّ شيء أو لا شيء“، والتركيز المفرط على الفشل والثبات. واستنادًا إلى غوردون فليت، أستاذ علم النفس في جامعة يورك بتورونتو، الكماليّة مرضٌ نفسيٌّ، يتمّ التعبير عنه بنوعٍ من “الهوس بالأشياء الصغيرة والأمور التافهة“، ومحاولة الوصول إلى نتاجٍ مثاليّ، أي “الكمال“. وعمومًا، يصعُب الاختلاط بالأشخاص الكماليّين الذين لا يملكون أصدقاءً ولا يتقبّلون أنّهم يعانون مرضًا نفسيًّا؛ وداخليًّا، يشعرون بالفخر ويعتقدون أنّهم مميّزون وبارزون. نجد هذا النوع من الناس في كلّ مكان، وبشكلٍ خاصّ في ميدان التربية، حيث تبرز “متلازمة التلميذ الممتاز” (excellent pupil syndrome)، أي التسابق من أجل نيلِ العلامات العُليا، والخوف من خسارة مقام “الفتاة الجيّدة” أو من العجز عن تلبية توقّعات الأهل والمعلّمين، والرغبة بالانضمام إلى جامعةٍ عريقة. كما وتظهر الكمالية في مجال السياحة (الهوس بالسياحة)، وفي سعي الإنسان اللامتناهي إلى أن يجعل نفسه أكثر جمالاً، بمساعدة اللياقة البدنيّة وعمليّات التجميل. وفيما يخصّ المهنة (الأشخاص الكماليّون في هذا المجال هم الأكثر عرضةً للإصابة بالعصاب أو الكآبة)، يَتَظَهَّرُ هذا المَرَضُ في تَحَوُّلِ المسؤوليّةِ إلى ما يُنافِي المنطق، عندما يؤمنُ المرءُ يقينًا أنّ لا أحدَ سواه يستطيع إنجاز المهمّة بشكلٍ جيّدٍ، ويحاول على مدى ساعات أن يُتمّ “بكمالٍ” كلّ عملٍ يُطلب منه، فيبدو بالنتيجة عاجزًا.
بعد أن حذفَ الناس الجزء الثاني من قول المسيح “كونوا أنتم كاملين كما أنّ أباكم الذي في السماوات هو كامل” (مت 5: 48)، اختصروا الجزء الأول إلى أقصى حدّ. وكالفن Calvinهو من ادّعى بأنّ النجاح في المسيرة المهنيّة هو المعيار الرئيس الذي يحدّد خلاص الإنسان. وهذا كان أساس مفاهيم السوق والمنافسة والنجاح الشخصي في المجتمع الغربي المعاصر. لاحظوا نتيجة العقائد البروتستانتية! ولو تكلّم الفلاسفة في المستقبل على تغييرٍ إيجابيٍّ ضروريٍّ على مستوى الأخلاقيات، وعلى تنمية المواهب، فالكماليةُ اليوم هي توقٌ مفرطٌ إلى الرفاهية المادّية غير المحدودة، والجمال الجسدي، والمناصب العليا في المجتمع، ويُعتبر “كاملاً” كلّ مَن حقّقَ هذه الأهداف.
انتقد تشاك بالاهنيوك Chuck Palahniuk، بشكلٍ لاذعٍ وذكيّ، هذا السعي التافه والأناني إلى الكمال، وهجا الأسلوب المؤلم في التعبير عن الذات، وديانة المجتمع الاستهلاكي، وذلك في روايته “نادي القتال” (Fight Club)، والتي صوّرها دايفيد فينشر فيلمًا عام 1999. بطلُ الرواية موظّفٌ يفقد صوابه شيئًا فشيئًا في البيئة المدنيّة، فهو شخصٌ كماليٌّ أدركَ أنّه أمضى حياته كلّها في شراء طاولات القهوة “بشكل يين يانغ“، ومصابيح ريسلامبا ذات الأوراق الصفراء صديقة البيئة (يسأل البطل نفسه: “كيف بوسعي أن أعيش من دونها؟“)، والصحون الزجاجيّة ذات الدوائر الصغيرة، وغيرها من السلع المرتفعة المعايير. ثمّ يصرخ: “لا أريد أن أكون “مكتملاً” بعد الآن، لا أريد أن أكون “مكتفيًا“، ولا أريد أن أكون “كاملاً“!، ويختار طريق الدمار، لكي يحرّر نفسه من استبداد الكماليّة والأصناف التجاريّة الحديثة، وليتوقّف عن أن يكون مستهلكًا مثل البقرة التي تمضغ ما سبق واجترّته.
بالطبع، لا يكمن حلُّ هذه المشكلة في تفجيرِ الشقّة السكنيّة خاصّتك، أو تأسيس نوادي قتالٍ تحت الأرض وتنظيمٍ إرهابيّ مثل“مشروع الفوضى” Project Mayhem. السبيل الوحيد للتحرّر من قوّة هذا العالم هو التحوّل نحو يسوع المسيح بالأسلوب الأرثوذكسي الصحيح من الناحية العقائديّة: “تعالوا إليّ يا جميع المتعَبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم” (مت 11: 28). إنّ الحياة في المسيح، والتطهّر من الأهواء والحقد بواسطة نِعَم الروح القدس، وعمل الخير باسم يسوع المسيح، يشكّلون السبيل الحقيقي الذي يتّسم بالحريّة الأصيلة وتحقيق الذات بواسطة محبة الله. على أيّة حال، ما يُبرز جدّية المشكلة هي الشهرة الواسعة التي حاز عليها كتاب بالاهينوك وفيلم فينشر (ويُثبت ذلك انتساب أكثر من 11 ألف شخصٍ، في واحدٍ من المواقع الاجتماعيّة فقط، إلى مجموعاتٍ مرتبطةٍ بهذا الفيلم). يشعر الكثيرون بصدق لغة الفن، وهو قمّة الثورة، لكنّهم، مثل تايلر دوردن (بطل الرواية)، لا يمكنهم غالبًا أن يصنعوا القرار المناسب (تقع مسؤوليةُ ذلك على عاتق الكنيسة أيضًا).
فضلاً عن ذلك، يتمّ انتقاد انهماك المجتمع المعاصر بـ“الخبزات والسمكات” في ثلاثيّة فيلم “The Matrix” المشهورة، والتي أُطلقَ جزؤها الأوّل والأشهر عام 1999 أيضًا، ما يشكّل مصادفةً هامّةً (وقد سجّل نسبةً مرتفعةً من المشاهدة!). يُظهر هذا الفيلم مجتمعَنا شعبًا أسيرًا، وبطارياتٍ تحافظ على حالةٍ من الابيقورية الزائفة في عالمٍ افتراضي.
كذلك، تنتقد لورين ويسبرغ السعي إلى الكمال الذي يتجلّى بوصوليّةٍ عديمةِ الرحمة، ومادّيةٍ محنّكة، وذلك في روايتها “الشيطان يلبس برادا” The Devil Wears Prada. نُشفق في هذه الرواية على أندريا التي لا تعود مهتمّةً بحياتها الكماليّة الفاتنة، وتختار بدلاً منها حريّتها الشخصيّة والحياة الحقيقيّة.
أعتقد أنّ الكماليّة المعاصرة هي نوعٌ من الكبت، هي ديانة القرن الحادي والعشرين، ومعتقد البشرية المعاصرة الذي قوّى جماعات التائقين إلى “الكمال“. هياكل هذا المعتقد هي محلاّت الألبسة والمتاجر الكبيرة، حيث العيد الدائم للمستهلك، وحيث يقايضون ساعات العمل بأحدث العلامات التجارية، وينسّق المهندسون طاولات القهوة والمصابيح بأسلوبٍ مؤثّرٍ بالنفس…خدّام هذا المعتقد هم مديرو العلامات التجاريّة الذين يبتكرون أسماءً مغريةً لمنتجاتهم. وقد قال سامفيل أفيتيجان، أحد أبرز الخبراء في هذا المجال، مجيبًا بتواضعٍ على سؤال مجلّة “Expert” عمّا إذا كان مدير العلامات التجارية مشابهًا للمسيّا: “هو أكثر من راعٍ وأبٍ روحيّ، ولو بدا قولي ساخرًا. يذهب الناس إلى متاجر IKEA في أيّام الآحاد، متجاوزين الكنيسة، وهم في الواقع يحاولون أن يحلّوا المشاكل النفسيّة ذاتها“. الجدير بالذكر أنّ هذه الكماليّة العكسيّة مستندةٌ إلى توقٍ معكوسٍ ومنحرفٍ للبشرية إلى الكمال الروحي، هي استبدالٌ للفضائل الحقيقيّة، تُجسِّد المثال المتحرّر من الأخلاق في المجتمع المعادي المسيحية.
من مقابلة مع الراهب سبيريدون بالاندين
نقلتها إلى العربية جولي عطية
www,orthodoxlegacy.org