...

فتنة جديدة!

أمّا معظم الناس اليوم، فيفتنهم أنّ الدنيا باتت بين يديهم. الدنيا ومَن فيها!

كان عليهما أن ينتظراني، مساء اليوم، في الساعة السابعة. ولكنّ أمرًا طارئًا اضطرّهما إلى أن يتركا منزلهما قَبْلَ وصولي. كان ولداهما في المنزل. في زيارتي، صُدمت مرّتين. لا علاقة لصدمتيَّ بغيابٍ لا لائمةَ عليه، بل بمجريات الزيارة. أُولى الصدمتين صدمة إيجابيّة من ذكاء، عرفته قَبْلاً، لم أتمتّع به كما كنت أرجو. وصدمة أخرى أليمة من هذا الفتى الذي، بعد أن سلّم عليَّ، توًّا بعد سلامه، “انزوى بآخرين”! أخذ، من دون اعتذار (ربّما اعتذاره يُبدي أنّ ما يفعله غير طبيعيّ!)، يتواصل معهم عبر هذا الهاتف النقّال الذي بات أساسًا مثل التنفّس! لم يكن مشهدُه جديدًا عليَّ. إنّها حال الناس في الدنيا، عمومًا!

لم أوفّر كلامًا. سألته: “هل قرّرتَ اختصاصك الجامعيّ؟”. رفع وجهه نحوي. ابتسم، وأجابني باقتضاب ظاهر. قال: “هندسة اتّصالات”! ثمّ أعاد وجهه إلى مكانه توًّا أيضًا، أعاده إلى هذه الآلة التي كادت تُلغي وجوهنا. لم يلاحظ انزعاجي. كان لا يرى سوى الآلة التي بين يديه! بادرته، ثانيةً، بوضوحٍ انتظرت أن يكشف له أنّ ما يفعله لا يفعله إنسان يفتح منزل ذويه! قلت: “يا فلان، إنّنا، الآن، معًا. ومَن تشغلك مراسلتهم، هم “معك” دائمًا! فهل يمكنك أن تؤجّل ما أنت تفعله، وتفيدني بوجودك قليلاً؟”. رفع وجهه من جديد. ابتسم من جديد. وعاد إلى آلته من جديد، من دون أن ينبس بحرف واحد!

قعدت قليلاً. ثمّ ودّعتهما. تركت الذكاء الذي لم أستحقّ أن أتمتّع به كما وددت، وخرجت أجرّ خيبتي من “جيل” (لا يُحصر بعمر!)، جيل لا يريد أن يعرف أنّ الحياة إنّما هي تَوَاجُه.

أعلم أنّني أكتب إلى أناس أحيا وإيّاهم في كوكب واحد! وعلى ذلك، سأسأل: هل ما رويته سيدفع واحدًا من القرّاء (واحدًا أو أكثر) إلى أن يفكّر في إمكان أن يكون هذا الفتى غير طبيعيّ، مثلاً؟! إن كان ثمّة مَن سيندفع إلى مثل هذه الفكرة، فأحبّه أن يعلم أنّني على يقين تامّ أنّ الفتى طبيعيّ، طبيعيّ جدًّا.

ما سحر هذه الآلة القادرة على أن تحوّل كثيرين، ممَّن يهبونها وجوههم، إلى آلات؟!

سألت فتًى آخر عن سرّ هذا السحر. أجابني بحماس أبداه يريد أن يقنعني بأمر من النافل أن أقول إنّه يقنعه كثيرًا جدًّا. قال: “إن كان هاتفك من الهواتف الذكيّة (Smartphone)، يمكنك أن تتواصل، تواصلاً فوريًّا، عبر تطبيق الـWhatsApp، مع أيٍّ كان، بكلفة تعادل المجّان”. صمت قليلاً، ثمّ فصّل: “هذا التطبيق يمكنه أن يعوّضك من أيّ لقاء. أنت وبعض أصدقائك، أيًّا كان عددكم، يمكنكم أن تتواصلوا بعضكم مع بعض، من دون أن يُتعب أيّ منكم نفسه بخروجه من مكانه. ويمكن أيًّا منكم أن يرسل أيّ ملفّ إلى أيّ شخص (واحد أو مجموعة). أي إنّ هذا التطبيق لا ينفع مستخدميه في الرسائل المعتبرة قصيرة sms فقط، بل، أيضًا، في إرسال الصور، والرسائل الصوتيّة، والفيديو، وغيرها”.

شكرت له هذا الشرح الذي زاد من خوفي على وجوه الناس!

لا أريد أن أبدو أنّني ضدّ التقدّم العلميّ لا سيّما على الصعد التي تُرى تنفع البشريّة وتقدّمها وازدهارها. لكنّني، في الآن عينه، لا أقدر على أن أرى إنسانًا، كبيرًا أو صغيرًا، ذكرًا أو أنثى، أيًّا كانت أسبابه، يتنازل عن وجهه. الإنسان وجه. هذا، إن لم ندركه دائمًا، أيُّ تقدّم، نغرق فيه، يمكنه أن يلغينا. لا أقصد أن أحصر هذه المشكلة في جيل من دون آخر (أي الفتيان والشبّان هنا) إن قلت إنّني أعرف كثيرين يمكنهم، مثلي، أن يؤكّدوا أنّ أولادهم، لا سيّما في السنتين الأخيرتين، كانوا، مثل فتى الزيارة، حاضرين غائبين. إنّهم هنا وليسوا هنا. ولعمري، لا أبرّر نفسي إن أضفت: لقد فهمت هذه الكارثة متأخّرًا. أساسًا، أولادنا سبقونا، أو سبقوا الكثيرين بيننا، في دخولهم هذا العالم الذي بات “قريةً كونيّة”! أولادنا، فتيانًا، يبدون أكثر قدرة على مواكبة براعة هذا التطوّر في تقنيّات عالم الاتّصال ووسائله والثورة المعلوماتيّة.

بلى، فكّرت إن كان شبابنا يهربون من أمر ما. ولم أستبعد أن يكونوا، هنا قليلاً وهناك كثيرًا. فحالنا وحال أمدائنا باتت لا تطاق، مثلاً. لكنّ ما فكّرت فيه لم يغرني أن أستغرق فيه وحده. فثمّة إغراء في كلّ جديد. وثمّة إغراء يكبر كلّما غلب

عددًا أكبر من الناس. وثمّة، قَبْلَ هذا وذاك، آباء أمّهات لا عدّ لهم، إن لم يكونوا يتبعون هذا الإغراء أو ذاك قَبْلَ أولادهم، يريحهم أن يكون أولادهم “بعيدين عنهم”!

أيضًا، لست ضدّ أيّ شابّ تجذبه هذه “الثورة”. لكنّني ضدّ أن يبدل إنسانٌ بآلةٍ لقاءَ الوجوه! ضدّ أن يفضّل آلةً على أن يقعد إلى ذويه وأقربائه وزوّاره. ضدّ أن يقفل بيته! ضدّ أن يضحك وحده، ويقطّب وجوهه وحده. ضدّ أن يحيا كما لو أنّه في كوكب آخر! ضدّ أن تتحوّل هذه الآلة “الذكيّة” إلى حبيبة وحيدة إلى قلبه. ضدّ أن تلتصق بيديه، وتنام معه في سريره. لا أحبّه، عندما يستيقظ، أن يجد نفسه قد تأخّر، كثيرًا، عن مغامرات الحياة التي الإنسان، الإنسان الحيّ، الإنسان الجديد، هو، وحده، بطلها وصانعها.

لا أعلم إن كان إنسان اليوم يهمّه أن يعلم أنّ التراث المسيحيّ قد اعتبر الجحيم أناسًا يحيون بعضهم مع بعض إنّما من دون أن يتمكّن أيّ منهم من رؤية وجه الآخر. هلاّ نقبل أنّ السماء وجوه، ونستبقها “الآن وهنا”؟ هل يمكننا أن نضع حدًّا لكلّ فتنة تريد أن توهمنا بأنّ الجحيم والسماء واحد؟!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فتنة جديدة!