المسيحية والعربية: العربية في عرف رجال الكنيسة هي الولاية الرومانية العربية التي أنشئت في سنة 105 حول مدينة بصرى فشملت كل ما وقع بين وادي الحسا في الجنوب واللجا في الشمال وبين بحر الميت والأردن من الغرب حتى أطراف البادية في الشرق.
وجاء في التقليد أن يوسي أخا يعقوب ويهوذا بشر في درعا واستشهد فيها وأن طيمون أحد الشمامسة السبعة بشر في بصرى وتسقف عليها وأن يوسف الرامي الذي تشرف بتجهيز الرب بشر في المدن العشر في شرقي الأردن.
وتنجلي الشكوك وينتفي الريب في مطلع القرن الثالث فيرن صوت الإنجيل في بصرى ويقوم اوريجنس الإسكندري إليها لينظر في بعض ما قاله أسقفها بيرلس. ويقول بولس السميساطي قولاً لعيناً فيتوافد الأساقفة إلى أنطاكية للنظر في بدعته فيمثل العربية زهاء سنوات أربع (264-168) مكسيموس أسقف بصرى. ولكن الإقبال على المسيحية يظل بطيئاً وتبقى الأكثرية الساحقة وثنية طوال القرن الرابع فلا يؤم القسطنطينية سنة 381 للاشتراك في أعمال المجمع المسكوني الثاني سوى خمسة أساقفة فقط، أساقفة بصرى ودرعا والسويدا وبراق وشيخ مسكين أو خان النيلة ثم يرتفع عددهم في المجمع المسكوني الرابع 451 إلى سبعة عشر فيجلس في خلقيدونية أساقفة درعا وعينة وقنوات وبراق اللجا والسويدا وصنمين وحسبان وافتيمية وجرش ومادبا والشقا وخان النيلة أو شيخ مسكين ونوى وعمان والشهبا وأذرع.
ويتبارى المؤمنون في العربية منذ منتصف القرن الخامس حتى الغزو الإسلامي في ميدان الإنشاء. فيحولون معابد جرش والقنوات وشقا وبصرى الحريري وأذرع إلى كنائس. وينهى يوليانوس متروبوليت بصرى في سنة 512 كتدرائية فخمة جليلة. ويندفع سرجيوس أسقف مادبا في سبيل الإنشاء فيتم إنشاء كنيسة الرسل في سنة 578. ويؤسس القس لاونديوس في سنة 603 كنيسة جديدة في مادبا ويكمل ما أنشأه سرجيوس في اليانه. ثم يلتفت إلى صياغة “الدير في الآرامية” فيوفق في إكمال كنيستها الكبيرة. ثم تنشأ الكنائس والأديار في كل مكان آخر في طول هذه الأبرشية العربية وعرضها.
عرب البادية: ولا نعرف المؤمن البدوي الأول. ولا نعلم متى بدأ عهد المسيحية في البادية ولعل أقدم الأخبار، رواية نقلها القديس ايرونيموس تنبئ باحترام عشائر البدو في منطقة غزة لشخص ايلاريون الناسك (291-371) وتعلقهم به واعتناقهم المسيحية على يده. ومن أقدم ما يروى من هذا القبيل خبر ماوية البدوية التي حاربت والنس (364-378) وأنزلت به الخسائر الفادحة وحينما جاء دور الصلح والتفاهم اشترطت أن يكون “موسى” أسقفاً على عشيرتها. فوافق والنس وأمر بذلك فنقل موسى الناسك إلى الإسكندرية ليسام أسقفاً على يد لوفيوس الإسكندري. فلم يرضَ موسى لتمسكه بالعقيدة الأرثوذكسية. فجيء بأسقف نيقاوي فسامه أسقفاً. فأقام في البادية يرعى شؤون ماوية وعشائرها.
ويقول سوزمينس المؤرخ أن راهباً من الرهبان تضرع إلى الله أن يرزق زقوماً شيخ إحدى العشائر الضاربة في البادية ابناً ذكراً وأن الله استجاب طلبة هذا الراهب فتنصر الشيخ زقوم وجميع أتباعه وأن زقوماً وقومه أصبحوا أخلص القبائل العربية لرومة في نزاعها مع فارس.
وفي أخبار كيرلس البيساني إن جماعة من البدو دخلوا على النساك في منطقة أريحا في أواخر السنة 420 وأن النساك فزعوا وتوجسوا خوفاً. فطلب شيخهم الصبيبة Asdabet مقابلة رئيس النساك افتيميوس الكبير. وكان له ولد مقعد “لم تنجح فيه حيل الأطباء ولا رقي الراقين المشعوذين” فبارك افتيميوس الولد الكسيح فقام يمشي. وكلل الله عمله بالنجاح فسامه يوبيناليوس أسقف أورشليم أسقفاً على المضارب. وكان قد اتخذ من بطرس الرسول شفيعاً له فسمّي الأسقف بطرس. ومثّل مسيحيي فلسطين في مجمع أفسس ووقع هكذا: “بطرس أسقف المضارب” وأصبح الكسيح طربون شيخاً على العشيرة وخلفه أولاده وأحفاده. وقُدر لأحد هؤلاء طربون الثاني أن ينقل هذه الرواية إلى كيرلس البيساني فخلدت بخلود مصنفه. وقدّم النذر عدد من أبناء هذه العشيرة بينهم ماري الذي ترأس المحبسة في أريحا وتوفي في السنة 448. ولا يخفى أن القديس الياس بطريرك أورشليم كان هو أيضاً بدوياً عربياً. وهدى ننوس أسقف بعلبك في هذا القرن نفسه ثلاثين ألف بدوي.
الغساسنة: جاء في الأنساب أن الغساسنة رحلوا من اليمن إلى تهامة وأقاموا فيها بين بلاد الأشعريين وعك على ماء يقال له غسان فنسبوا إليه. ونزولوا مشارف الشام وفيها الضجاعم من قضاعة فغلبهوم على ما في أيديهم وأنشأوا لأنفسهم زعامة في البلقاء وحوران في المنطقة التي دعيت العربية. وأمن بالمسيح سائر أبنا هذه المنطقة كما أشرنا أعلاه.
وقضى الغسانيون زمناً طويلاً والروم لا يكترثون لهم لأنهم لم يحتاجوا إلى نصرتهم. واشتد ضغط البرابرة واستفرس الفرس، فشعر الروم بالضعف ورأوا الفرس يستنجدون عرب الحيرة فاضطروا إلى استنصار عرب العربية وما جاورها فاتجهت أنظارهم نحو الغساسنة. وأول من ذكر من أمراء غسان في خدمة الروم جبلة وقد ورد عنه أنه أخمد ثورة فمنحوه رتبة فيلارخوس وجعلوه عاملاً على البتراء. وجبلة هذا هو في نظر ثيودور نولدكه والد الحارث ابن جبلة أكبر ملوك غسان وأكثرهم ذكراً في مراجع الروم. وحارب الحارث الغساني المنذر ملك الحيرة سنة 528. واستعانه الروم لإخماد ثورة السامريين ففاز بها. وأُعجبوا بشجاعته وبالغوا في تقريبه وترقيته فأصبح فيلارخوساً عاماً وبطريقاً. وفي السنة 541 حارب الحارث في العراق بجانب الروم وعبر دجلة على رأس جماعته ثم ارتد إلى مركزه السابق عن طريق غير الطريق التي اتبعها الروم. فشك بعض الروم في إخلاصه. وفي السنة 563 سافر الحارث إلى القسطنطينية ليفاوض البلاط في من يخلفه من أولاده وما يجب اتخاذه من التدابير لمقاومة عمرو ملك الحيرة. فكان لما شاهدخ من مظاهر العظمة وقع عظيم في نفسه. وكذلك فإنه أحدث هو بدوره تأثيراً قوياً على سكان العاصمة ولا سيما على يوستينوس نسيب يوستنيانوس. فلما أصيب يوستينوس بعقله بعد تسلمه العرش، كان أهلا البلاط يخيفونه بالحارث العربي كلما بدا منه عصيان أوعربدة فيقولون له: “تعقل سندعو الحارث”.
وناصر الحارث المونوفيسيين ولم يدخر وسعاً في الدفاع عنهم وتحريرهم من الاضطهاد. وتمكن في السنة 542-543 من تحقيق رجائه لدى ثيودورة الأمبراطورة بتعين يعقوب البرادعي ورفيقه ثيودوروس أسقفين في العربية أو غيرها. فتوطدت بذلك دعائم الكنيسة اليعقوبية. ويظهر من أقوال يوحنا الأفسسي أن الحارث سعى لحل المشاكل العقائدية والشخصية بين اكليروس اليعاقبة و اكليروس الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة، ولكن دون جدوى. ويرى العلامة ثيودور نولدكه أن الحارث لم يدرك حقيقة المسائل التي كانت تدور عليها تلك النزاعات وإنما كان مدفوعاً بالعامل السياسي لمعاضدة المذهب الذي كانت تتبعه أكثرية الشعب في إمارته.
ويجب ألا يغيب عن البال أن أمراء غسان لم يجمعوا القول بالطبيعة الواحدة. فالدعاء للمنذر ابن الحارث الذي وجد منقوشاً على حجر في إحدى نواحي تدمر أو النبك يشمل عبارة هامة جداً تنص بما يلي: “واهد الضالين من اخوته إلى معرفة الحق أيها الله تعالى”. فإأذا ما ذكرنا أن هذا النص يتضمن أيضاً الإشارة “إلى الأسقفين المحترمين القديسين” يعقوب البرادعي ورفيقه ثيودورس يتبين أن المقصود من ضلال اخوة المنذر انتماؤهم للكنيسة الأرثوذكسية الجامعة وقولهم معها بالطبيعتين.
وتوفي الحارث ابن جبلة في سنة 569 أو في أوائل سنة 570 فتسلم زمام الحكم بعده ابنه المنذر فهب لمحاربة قابوس ملك الحيرة لأنه كان قد انتهز فرصة وفاة الحارث للإغارة. فانتصر المنذر ابن الحارث على قابوس عند عين أباغ في البادية في ربيع سنة 570. ومما تحفظه لنا المراجع عن هذا الأمير الغساني أنه عقد في أوائل عهده مجمعاً محلياً للنظر في بدعة المثلثين tritheisme وحكم عليهم بالهرطقة. وكان ممن أمضى قراراته “كاهن البطريق المنذر الأمجد ومحب المسيح” وهو فيما يظهر كاهن بلاط الأمير. ولم يرضَ الأمبراطور يوستينوس عن المنذر لأسباب نجهلها فأوعز إلى عامله البطريق مرقيانوس أن يحتال عليه ويقتله. وأحس المنذر بذلك فشق عصا الطاعة. فأغار عرب الحيرة على أملاك الروم. فاسترضى الروم المنذر فلم يرضَ بالمفاوضة إلا عند قبر القديس سرجيوس في الرصافة لما تمتع به هذا القديس من الإجلال والاحترام عند السوريين. وفي الثامن من شباط سنة 580 وصل المنذر مع اثنين من أبنائه إلى القسطنطينية فاستقبل فيها استقبالاً حاراً وأنعم عليه الأمبراطور طيباريوس بالتاج بدلاً من الإكليل. وانتهز المنذر هذه الفرصة فسعى لنيل العفو عن اليعاقبة أصحاب مذهبه. ويرى مؤرخ الغساسنة العلامة ثيودور نولدكه أنه لا يجوز تعليق أهمية كبرى على قول يوحنا الأفسسي (4: 21 و36) أن قبائل العرب في سورية كانت متمسكة متعصبة لمذهب الطبيعة الواحدة “لأن ذلك لم يكن ليحول دون دخول أكثرهم في الإسلام بعد خمسين أو ستين سنة”.
وفي السنة 580 عزم موريقيوس قومس الأناضول أن يغزو بالاشتراك مع المنذر إحدى ولايات الفرس. وما أن فعل حتى وجد الجسر الكبير على الفرات مهدوماً فارتد خائباً وعزا هذه الخيبة إلى خيانة المنذر وتواطئه مع العدو. وعلى الرغم من عودة المنذر إلى الغزو ووصوله إلى الحيرة وعودته غانماً فإن سلطات الروم ظلت حاقدة ثائرة في أمر هذا الأمير. ولعل السبب في هذا يعود إلى الفارق المذهبي وتوتر الأعصاب. فالعاصمة وأمهات المدن حوت آنئذ جماعات كبيرة من كبار رجال الأكليروس والشعب ونظرت شزراً إلى سياسة التساهل مع اليعاقبة وتاقت إلى تجريد كنائس هؤلاء من حماتها. فصدرت أوامر مشددة إلى مغنوس حاكم سورية بالقبض على هذا الأمير العربي. فأرسل مغنوس إلى المنذر يدعوه إلى حوَّارين ليشترك في تدشين كنيستها ولا سيما وأن البطريرك خليفة الرسولين سيرأس الحفلة. فلبى الأمير الدعوة فألقي القبض عليه وأرسل مخفوراً إلى العاصمة. ومن أغرب ما جاء في كلام يوحنا الأفسسي لهذه المناسبة أن الأمير أقام مع “إحدى نسائه” وابنين وبنت له في الأسر. ومما جاء لهذه المناسبة نفسها كلام الأمير الغساني: “ولقد كان في وسع عرب الفرس أن يأسروا نسائي وأولادي”. فهل يجوز القول أنه كان للمنذر عدة نساء وأن الكنيسة لم تكن تبالي بذلك مادامت زيجات الأمراء المتعددة غير كنائسية! وجرى هذا كله في أواخر عهد طيباريوس. فلما توفي هذا الامبراطور وخلفه موريقيوس عدو المنذر نفاه ورجلاً آخر من كبار الحاشية إلى جزيرة صقلية.
وتمرد أولاد المنذر على دولة الروم وأوغلوا في البادية بزعامة كبيرهم النعمان وأخذوا يشنون الغارة تلو الغارة على أراضي الدولة. وألقوا الرعب في قلوب الحامية في بصرى وأضطروها أن تتخلى عن الذخائر الحربية وأموال أبيهم المحفوظة فيها. فاستعان موريقيوس بأحد أخوة المنذر “الأرثوذكسيين” وألقى القبض على النعمان وأخذه أسيراً. وتصدعت أحوال العرب عند تخوم البادية (584) وتفككت عرى الوحدة بينهم واختارت كل قبيلة أميراً ولحق بعضهم بالروم وعادوا إلى حضن الكنيسة.
سمعان العمودي والبدو: قد يعود الفضل في تبشير شرقي البادية إلى بعض الأسرى المسيحيين الذين نقلوا إلى الحيرة وغيرها بأمر شابور في سنة 260. ولكن الفضل الأعظم يعود فيما يظهر إلى العمودي الأكبر القديس سمعان الذي بهر نوره في النصف الأول من القرن الخامس فأضاء البادية بأسرها.
أساقفة الحيرة: وتوفي النعمان ملك الحيرة في السنة 418 فتعاقب في الحكم بعده كل من المنذر الأول (418-462) والأسود (462-482) والمنذر الثاني (482-489) والنعمان الثاني (499-502) فقاسى بعضهم شدة لتنصر قومهم وحمى آخرون المسيحيون في فارس عند الضيق ولا سيما المنذر الأول. واشترك أساقفة الحيرة في القرن الخامس في مجامع محلية ترأسها كثوليكوس سلفكية ووافقوا على مقرراتها فأمسوا من النساطرة.
المونوفيسيون والحيرة: وفي مطلع القرن السادس نشط المونوفيسون لبث دعوتهم في الحيرة فأمها شمعون الأرشمي وأقام فيها ودعا إلى بدعته فاستجاب له بعض المسيحون وبن أشرافهم كنيسة أو أكثر. “وكان غيوراً جدلا حاذقاً درباً”. ثم أوفد سويروس الأنطاكي أسقفين مونوفيسيين في سنة 513 إلى بلاط المنذر الثالث (505- 545) ليدعواه إلى القول بالطبيعة الواحدة. ويروى أنه تظاهر بالأسف الشديد عندما تناول حديثهما ميخائيل رئيس الملائكة. فلما سئل عن سبب تأسف قال أولا يؤسف لموت رئيس الملائكة. فطمأنه الأسقفان مؤكدين أن الملائكة لا تموت. فانتفض المنذر وقال متهكماً وهل يموت الإله المتحد بالمسيح بطبيعة واحدة على الصليب. فاكتفى الأسقفان وبقيت الحيرة نسطورية خالصة.
وظل المنذر الثالث هذا وثنياً يذبح للعزى ويقدم لها أفضل ما عنده. فقد جاء في بعض المراجع أن هذا المنذر قدم في السنة 544 ذبيحة لهذا الغرنوق ابن الحارث الغساني الذي وقع في يده أسيراً في إحدى غزواته وأنه ضحى بأربع مئة عذراء وقعن تحت برائنته في حمص لمناسبة دخوله إليها.
المنذر وخلفاء: ومات المنذر فتولى زمام الأمور ابنه عمرو (554-569) وكان مسيحياً. فأنشأت أمه هند الغسانية زوجة المنذر الميت ديراً في الحيرة. ونقشت في صدره بموجب رواية ياقوت العبارات التالية:
“بنت هذه البيعة هند بنت الحارث بن عمرو بن حجر الملكة بنت الأملاك وأم الملك عمرو بن المنذر أمة المسيح وأم عبده وبنت عبيدة في ملك ملك الأملاك خسرو انو شروان في زمان مار افريم الأسقف. فالإله الذي بنت له هذا الدير يغفر لها خطيئتها ويترحم عليها وعلى ولدها ويقبل بها وبقومها إلى أمانة الحق ويكون الله معها ومع ولدها الدهر الداهر”
ويستدل من هذا أن الملك عمرو ابن المنذر كان مسيحياً لأن النقش علا صدر الدير في أيام ملكه (554-569) ويظهر أن المسيحية لم تثبت بعد عمرو. فلما مات رجع خليفته أو المنذر ابن المنذر إلى الوثنية. ونشأ ابنه النعمان فيها يذبح للأصنام حتى أمن بالمسيح على يد الكاثوليكوس صبر يشوع في السنة 594.
جزيرة تيران: مما جاء في المراجع خبر أسقف تيران. وتيران جزيرة عند مدخل خليج العقبة اشتهرت في القرون الأولى بجماركها وسلطتها على التجارة البحرية عبر البحر الأحمر. ومما يروى عنها أنها سقطت في السنة 470 في يد عربي اسمه امرؤ القيس قدم إليها من المناطق الخاضعة لفارس فاحتلها وطرد موظفي الروم منها ثم ما لبث أن أوفد أسقفاً اسمه بطرس إلى الأمبراطور لاوون ليقدم خضوعه ولينال منه لقب فيلارخوس عرب البتراء. وتذكر المراجع أن الأمبراطور استدعى هذا الزعيم إليه ومنحه السلطة على جزيرة تيران ومناطق غيرها. ثم عادت الجزيرة إلى حكم الروم المباشر بنزول القائد رومانوس فيها عام 498 ولكنها احتفظت باسقفيتها. فإننا نقرأ في أعمال مجمع أورشليم المحلي المنعقد عام 536 عن أنسطاسيوس أسقف تيران. ولعله كان خاضعاً لكنيسة سيناء.
حمير: لا نعلم بالضبط متى وصلت المسيحية إلى اليمن. ولكننا نقرأ أن الأمبراطور قسطنديوس أوفد في السنة 356 بعثة يرأسها الراهب الآريوسي ثيوفيلوس لتفاوض في حرية الإتجار وحرية المعتقد ولتنشر رسالة السيد المخلص. وأفلح ثيوفيلوس فيما يظهر وأنشأ كنيسة في عدن وفي ظفر. ولا نعلم بالضبط ما إذا كان هذا الراهب نجح في تأسيس كنيسة ثالثة في هرمز عند مدخل الخليج الفارسي. ويؤكد ثيودوروس القارئ أن المسيحية لاقت نجاحاً في حمير في عهد انسطاسيوس الأمبراطور (491-518) وأن المسيحيين في هذا البلد البعيد خضعوا لأسقف يرشدهم ويدبر أمورهم ولعل هذا الأسقف هو سلوانس عم يوحنا الذيكرينومينوس.
نجران: ولا يختلف اثنان في أن نجران كانت أهم مواطن المسيحية في الجنوب. ولعل الفضل في اعتناق أهلها المسيحية يعود إلى كنيسة أنطاكية. فقد جاء في كتاب السيرة لابن هشام (طبعة أوروبة 20-22) وفي تاريخ الرسل والملوك للطبري (طبعة أوربة جـ1 ص 919) أن قافلة عربية أسرت راهباً سورياً اسمه فيميون فنزلت به إلى نجران فهدى أهلها طريق الصواب. ويذكر ياقوت كعبة في نجران يقال لها البيعة بناها بنو عبد المدان بن الديان الحارثي على بناء الكعبة فعظموها مضاهاة لكعبة مكة. وكان فيها أساقفة “معثمون”.
وكانت اليهودية قد تسربت إلى بلاد اليمن من جراء خراب أورشليم. وكان آخر ملوك حمير ذونواس يرى في المسيحية ما يذكره بالأحباش ومطامعهم في اليمن. فأوقع بالنصارى في السنة 523 مذبحة نجران ثم جمع من نجا منهم وخيرها بين القتل واليهودية. فاختاروا الموت استشهاداً. فخدَّلهم اخدود النار.
{وروى بعض المحدثين أنه مما جاء في سورة البروج من القرآن “قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود”. ومما جاء في الطبري أيضاً أن دوس ذا ثعبان أفلت ولجأ إلى امبراطور الروم يستنصره على ذي نواس وأن يوستينوس قال له: “نأت بلادك عنا فلا نقد أن نتناولها بالجنود ولكني سأكتب إلى نجاشي الحبشة وهو أقرب ملوك -النصرانية- إلى بلادك”.}
ويروى أيضاً أن النجاش انتصر على ذي نواس مرتين متواليتين في السنة 523 وفي السنة 525. وهنا رب معترض يقول كيف اضطهد يوستينوس أصحاب الطبيعة الواحدة في بلاده ثم تعاون معهم في الحبشة واليمن. والجواب أن صاحب القسطنطينية كان يعتبر نفسه حامي ذمار النصرانية في كل المسكونة.
انتشار المسيحية في قلب الجزيرة: يستدل من أقدم المراجع العربية الإسلامية أن أفراداً وجماعات من قبائل هُذيم وعُذرة وجُذام وجُهينة وبلي وبهرا وطيّ وحنيفة دخلوا في المسيحية قبل الإسلام وأن بعض هؤلاء لم يسلم إلا بعد وفاة محمد. وأقرب هذه القبائل للمدينة بنو هُذيم وكانوا فقراء ضعفاء. أما بنو عُذرة فإنهم نزلوا وادي إضم في شمالي الحجاز وعرفوا برقة عواطفهم وطهارة عشقهم. وكانت منازل جهينة بين المدينة والعقبة وفي سيناء حتى الفرما. وجاءت منازل بلي بين المدينة وتبوك. ومن مسيحية قضاعة بهرا وكانت منازلهم بين بلي وبين مشارف الشام. وتاخمت لخم حدود الشام. أما منازل بني طيّ وبني حنيفة فإنها كانت في قلب الجزيرة وإلى شرق المدينة.
وتمر العصور ويبقى حسُّ هذا العهد مسموعاً في ما تبقى من أدب. فهذا حنظلة الطائي يفارق قومه وينسك ويبني ديراً بالقرب من ضفة الفرات. وفيه يترهب حتى يموت. وذاك قس ابن ساعدة يتقفّر القفار ولا تكنّه دار يتحسّى بعض الطعام ويأنس بالوحوش والهوام. وينظم بعضهم الشعر فيزهد في الدنيا ويدعو إلى النظر في الكون والاعتبار بحوادثه.
وصول المسيحية إلى مكة: لا يختلف اثنان فيما نعلم في وصول المسيحيون من الأحباش إلى مكة وإقامتهم فيها لأغراض يقضونها. وإذا كان هؤلاء من “طبقة العبيد” وكانت منازلهم بعيدة عن الكعبة متاخمة للصحراء وكان ما يتحدثون به من قصص دينية لا يتصل بسمع أمجاد قريش وأشراف أهل البلد. فأمية ابن أبي الصلت الذي كان ينظر في الكتب ويقرأها ويلبس المسوح تعبداً وورقة ابن نوفل الذي عرف الإنجيل ونقل بعضه إلى العربية! وماذا نقول في القريشيين الأربعة ورقة ابن نوفل وعبيد الله ابن حجش وعمثان ابن الحويرث وزيد ابن نفيل الذي “خلصوا نجيّاً فقال بعضهم لبعض تعلموا والله ما قومكم على شيء لقد أخطئوا دين أبيهم ابراهيم ما حجر نظيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع” فأما ورقة ابن نوفل فاستحكم في النصرانية واتبع الكتب من أهلها حتى علم علماً من أهل الكتاب. وأما ابن جحش فإنه هاجر مع المسلمين إلى الحبشة ثم تنصر ومات نصرانياً. وكذلك ابن الحويرث فإنه لجأ إلى قيصر وتنصر. وابن نفيل لم يدخل في يهودية ولا نصرانية ولكنه فارق دين قومه واعتزل الأوثان. (السيرة لابن هشام ج 1 ص178-179 ط. محيي الدين عبد الحميد).
خطباء المسيحيين: ولم يفد أبو طالب مالاً كثيراً من رحلته إلى الشام فأقام في مكة. وأقام محمد قانعاً بنصيبه. فإذا جاءت الأشهر الحرم ظل بمكة مع أهله أو خرج وإياهم إلى الأسواق المجاورة بعكاظ ومجنة وذي المجاز، يستمع لإنشاد أصحاب المذهبات والمعلقات ويصغي غلى خطب الخطباء ومن بينهم اليهود والنصارى الذين كانوا يأخذون على إخوانهم العرب وثنيتهم ويحدثونهم عن الإنجيل والتوراة ويدعونهم إلى الحق…… (حياة محمد لمحمد حسين هيكل ص77).
كتب بواسطة المؤرخ أسد رستم
www.orthodoxonline.org